الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

العراق.. رحيل أَعْلاَمه في المنفى

رحلت قبل أيام شاعرة عراقية ناهز عمرها 92 عاماً هي «لميعة عباس عمارة»، أوقفت جلّ شعرها في الغزل ببغداد، لكنها هجرتها، وسافرت إلى المنفى منذ عقود بعيدة، وقالت قبل رحيلها:

بغداد، تائهة أنا حيرى

من بَعدِ صدرِك لم أجد صدرا


لكن برغم ذلك، كان قرارها النهائي ألاّ عودة لها أو إقامة في بغداد، برغم تبدّل أكثر من عهد سياسي مرّ على حكمها. وقبل رحيلها بأسبوع رحل شاعر كبير آخر هو سعدي يوسف في مهجره بلندن، كان أوثق صلة بشؤون ما يحدث في بغداد، ولم يتعاطَ معها غزلاً، وإنما شعراً صادماً حفّز الطبقة السياسية هناك ضده خلال أكثر من عهد.


وقبلها كان رحيل شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري وعبدالوهاب البياتي وبلند الحيدري وأدباء ومفكرين آخرين، غياباً صامتاً في أصقاع الغربة، حاملين العراق جذوة إبداع لا تنطفئ في صدورهم في كل مكان، ولم يكن لهم هوية في إبداعهم أو شخصياتهم سوى العراق، لكنهم كانوا مجمعين على ألا عودة إلى بلدهم، والفراق بينهم وبينه أبدي، حتى إنَّ ترابه لم يضم قبورهم.. فأيّ تغيير جوهري حدث في طبيعة الحياة العراقية، لتتحول من وليدة المبدعين إلى طاردتهم؟

بلا شك، إن الخلافات السياسية ليست العامل الحاسم الوحيد في هذه الانتكاسة في العلاقة بين المثقفين وبلدهم، لكن لا يمنع هذا من حجب حقيقة أن مغادرة المثقف بلده هي رفض سياسي أيضاً، ومقاطعة لحالة لا يمكن مد الجسور معها، فضلاً عن كونها حالة لمنع اضمحلال التفكير الحر، الذي تتآكل مساحاته تحت الضغوط المحلية، وقد تجد آفاقاً مفتوحة في الخارج، برغم من عدم وجود بيئات مثالية لعيش المفكرين الباحثين عن التغيير واستمرار التنوير.

التداخل بين الديني والسياسي في مواقع قيادة مراكز القوى في المجتمع والدولة هو سبب جوهري مضاف، لم يكن موجوداً في عقود سابقة، وبات اليوم هو الناظم الأساسي لطبيعة تنميط شخصية الإنسان ومسارات المجتمع ومؤسسات الدولة، وهذا منعطف شمولي آخر يُستدرج إليه العراق منذ نهاية حقبة حكم الفرد الواحد.

في بلدان عربية، تحدث هذه القطيعة والهجرة للمثقفين والأدباء والفنانين لكنها تكون غالباً مرحلية ما تلبث أن يتم تجسير هذه الجفوة بتغيير عوامل معينة، لكن الحالة العراقية مختلفة، أفرزت قطيعة نهائية بين المبدعين الحقيقيين والعودة لبلدهم، مهما تبدلت الحكومات والأوضاع العامة، وهذه ناحية تحتاج إلى دراسات معمقة وتفصيلية، ليس متاحاً لنا، هنا سوى الإشارة والتنبيه لها.