الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

تونس.. ودستور الحبيب بورقيبة

يعتقد الكثير من الناس أن ذاكرة الأسماك ذاكرة قصيرة تقاس بالثواني، وبما أن العديد من الشعوب تمارس الأسطورة أكثر مما تمارس التفكير العلمي، فإن ذاكرتهم تنافس ذاكرة السمك في قصرها، ومن هنا فوجئ الشارع التونسي بتصريحات الرئيس الذي يريد العودة إلى دستور الحبيب بورقيبة الصادر عام 1959 والانقلاب على دستور 2014.

فقد أثار مضمون تصريح أمين عام اتحاد الشغل نورالدين الطبوبي بأن الرئيس قيس سعيد يرغب في العودة إلى دستور سنة 1959، بعد إدخال تنقيحات عليه وعرضه على الاستفتاء الشعبي، زوبعة من التصريحات الرافضة، وأحدث انقساماً حاداً في الشارع، حيث رأى البعض أن ما ينوي الرئيس القيام به يمثل رِدة عن أهداف الثورة التي قامت ضد حكم الفرد والاستبداد.

القنبلة التي فجرها تصريح نورالدين الطبوبي ليست جديدة، ولا تقع تحت بند المفاجآت السياسية، فالرئيس التونسي لم يقُل شيئاً مختلفاً عما يؤمن به، والتونسيون الذين انتخبوه يبدو أنهم لم يكونوا مهتمين بقراءة تصريحاته القانونية السابقة.


قيس سعيّد صرّح قبل ترشحه للرئاسة بأن الدستور الجديد وضع على مقاس الأطراف التي شاركت في صياغته، وأنه لا يمكن الحديث عن دستور جديد في ظلّ فكر سياسي قديم، معتبراً أن ما حدث لا يختلف كثيراً عن آلية وضع دستور الحبيب بورقيبة، فالاختلاف لا يزيد على كون دستور 1959 وضع على مقاس طرف واحد، فيما دستور 2014 فُصّل على مقاس عدة أطراف.


الرئيس وبعد دخوله قصر قرطاج لم يأخذ وقتاً طويلاً ليعلن صراحة أكثر من مرة عدم قناعته بالنظام البرلماني، وتفضيله النظام الرئاسي الذي كان سائداً قبل قيام الثورة التونسية، والذي يجمع السلطات الرئيسية بيد الرئيس، لذا لم تغب الصراعات والخلافات يوماً عن خطابات الرئيس ومحاولاته الدائمة اقتناص الأحداث لإبراز مساوئ النظام البرلماني، وهجومه المستمر على البرلمان والحكومة، كل ذلك لم يكُن عبثاً وعدم خبرة سياسية، بقدر ما هو تدرج منطقي لإيصال البلاد إلى المرحلة التي يصبح فيها تعديل الدستور وفشل النظام البرلماني أمراً واقعاً ومطلباً شعبياً، ما يسمح للرئيس بتطبيق رؤيته وقناعاته.

قيس سعيد لم يأت بجديد والصَّدمة التي هزت الشارع بعد الحديث عن العودة إلى دستور 1959 تظهر أن ذاكرة السمك أصبحت سائدة في العديد من مجتمعاتنا، فالرئيس أعلن مسبقاً عدم قناعته بالدستور الجديد، ومارس الكثير من التصرفات التي تظهر أنه ذاهب إلى النظام الرئاسي بأي ثمن، فلماذا كل هذا الاستغراب وخيبة الأمل؟ ولماذا نُهزم دائماً بالعاطفة التي تحركنا رغم أن الأمور واضحة وضوح الشمس؟