الخميس - 28 مارس 2024
الخميس - 28 مارس 2024

سياسات الكلام

يُجمع البشر على أن حقائق الكون ثلاث مجموعات، أولها: الحقائق المادية؛ وهي كل شيء موجود وجوداً محسوساً، ويشغل حيزاً في هذا الكون، مثل كل المحسوسات حولنا، وثانيها: الحقائق العقلية التي توجد في عقول البشر ويتفقون على وجودها، مثل حقيقة وجود مفهوم للعدالة أو للحرية، أو معنى معين للحق والخير والجمال، وثالثها: الحقائق اللغوية؛ التي توجد في عالم الكلام، وهي لا تعبر عن حقائق واقعية أو عقلية، لأنها تركيبات وعبارات لغوية، لا وجود حقيقي لها خارج إطار الكلام.

والحقيقة التي يقر بها أي متابع محايد لما يحدث في العديد من المجتمعات من حوار سياسي أو ثقافي أو ديني على أي مستوى من المستويات ينحصر في عوالم الحقائق اللغوية فقط، لا يوجد فيها حقائق عقلية، ولا حقائق مادية واقعية.

كل الحقائق هي فقط كلام في كلام في كلام، يتصارعون على كلمات، ويُقتل الناس بسبب كلمات، يبنون أهراماً من الكلام الأجوف، وينشئون حضارة من الكلام الفارغ، ويشعلون حروباً مستعرة من الكلام البذيء، كل ذلك تديره فضائيات، ووسائل تواصل اجتماعي تمثل بورصات للكلام.


والمتابع للعديد من قادة الدول في الإقليم والجوار يجد أنهم غارقون في سياسات الكلام، كل إنجازاتهم كلمات فارغة جوفاء تمجد الذات وتفخر بما هو غير موجود في الواقع، وإنما موعود بوجوده دون أن يكون لهذا الوعد إمكانيات لتحقيقه.


أصبحت السياسة عند العديد منهم مجرد كلمات ضخمة بدون حقائق تعبر عنها المقصود بها تخدير الشعوب حتى تعيش في عالم الحقائق اللغوية التي لا يوجد لها على أرض الواقع ما يجسدها في حقائق واقعية.

ومع تضخم هذه الظاهرة قادت إلى اتجاهات بعيدة عن المنطق والعقل، بحيث يظن بعض السياسيين أنه يستطيع بالكلمات أن يحول الانهيار الاقتصادي الذي يعيشه المواطن إلى حالة من الرخاء التي يحسدهم عليها العالم، أو أن يستطيع بالكلام تحويل الكارثة العسكرية إلى نصر والهزيمة إلى حكمة سياسية.

أو أن يخفي بالكلام ما تحقق في أرض الواقع من تغييرات كبيرة يعيشها كل من يمر بالمكان كما يفعل تنظيم الإخوان مع الدولة في مصر، أو أن يجعل من الخونة والعملاء حراس الوطن، ومن المستعمر المحتل صاحب البلاد، كما تحاول دول بعينها تصوير وتبرير وجودها في ليبيا.