الخميس - 28 مارس 2024
الخميس - 28 مارس 2024

جورجيا والعولمة.. الدرب الوعر

خلال الأسبوع الثاني من عطلتي التي أقضيها في جورجيا، غادرت جبال القوقاز الشامخة المتاخمة لروسيا وذات القمم المغطاة بالثلوج، واتجهت صوب المدن العتيقة والقرى المنتشرة في بطاح وسهول وتلال منطقة القوقاز السفلى في طريقي إلى ميناء «باتومي» الكبير الواقع على البحر الأسود.

وبدت لي الأخبار الواردة من تبليسي وكأنها أصداء مشوّشة آتية من عالم آخر، وقبل يومين، صدر قرار حكومي بإلغاء المظاهرات المؤيدة لتوسيع الأطر العامة للحريات الفردية خوفاً من وقوع اشتباكات لا تُحمد عقباها مع المحافظين المعارضين لها، والقضية لا تتعلق بالانقسام في المواقف السياسية أو الاقتصادية بالمعنى الصحيح، بل بالالتزام بالقيم الأخلاقية الموروثة، ويحدث مثل هذا في أمريكا الشمالية وأوروبا، حيث يطالب الناس بتحقيق المزيد من الحرية في تبنّي خياراتهم الشخصية وأذواقهم الفردية.

وتكشف هذه التوجهات عن فجوات اجتماعية عميقة بين شباب المجتمع الناشئ من سكان المدن من جهة، وبين السكان المتمسكين بعادات وقيم الحياة الريفية التي يعود تاريخها إلى قرون خلت.


وبالرغم من التنوّع الثقافي والعقائدي للشعب الجورجي من حيث اللغات السائدة والدين ووجود الكنائس والمساجد الآمنة جنباً إلى جنب، إلا أن هذا التنوّع الثقافي يزداد تأثراً بالأفكار الوافدة والمعايير الاجتماعية الجديدة التي تسللت إلى هذا الكيان الاجتماعي من خلال العولمة.


وتشهد جورجيا تغيرات سريعة، والدولة منشغلة بإصلاح واستكمال البنى التحتية التي تهدف لتسهيل الاتصالات وتحسين الظروف المعيشية للمواطنين، وعهدت مؤخراً لشركات صينية بحفر الأنفاق في الجبال وبناء السدود على مجاري الأنهار، وتحسين طرق الوصول إلى القرى المنعزلة بهدف تنشيط السياحة الأجنبية، وتقام فيها منتجعات جديدة للتزلج على الجليد ومرافق سياحية بحرية، وهذا يمثل جزءاً من طريق الحرير الجديد.

ومن ناحية أخرى، يبدو الاهتمام الكبير لمشاركة الوكالة الأمريكية للتنمية بتجديد المواقع والمراكز الثقافيَّة واضحاً، ويهدف لتعزيز مشاعر الانتماء الوطني في إطار منافسة سلمية ولكنها عنيفة لجذب اهتمام الرأي العام الجورجي.

ويمكن القول: إن وطن جوزيف ستالين بات ممزّقاً بين معسكرين متنافسين، والخيار لم يعد بين الرأسمالية والشيوعية مثلما كانت عليه الأحوال خلال فترة الحرب الباردة، بل اتَّخذ شكل التنافس الثقافي والأخلاقي، ويبدو أن الغرب ينجح في تقديم نموذج أكثر انفتاحاً وميلاً للتحرر في مقابل القيم المحافظة المدعومة من الطبقات التقليدية الأقل تعليماً من السكان، الذين يشعرون بالقلق والإحباط من التغيرات السريعة التي يبدو لهم أنها ستكون سبباً في التخلي عنهم.