السبت - 20 أبريل 2024
السبت - 20 أبريل 2024

إذا جُهَّالُهُمْ.. سادُوا

في القرن الثاني قبل الهجرة النبوية الشريفة؛ القرن الخامس الميلادي؛ وضع شاعر عربي أسساً فلسفية عميقة لقيادة المجتمعات الكبيرة؛ تعتبر من أهم مصادر الحكمة السياسية عند العرب، هذا الشاعر الحكيم هو «صلاءة أو (صلاة) بن عمرو بن مالك بن عوف»، من «بني مَذْحِج» في اليمن، وقد عُرِف بلقب «الأَفْوَهُ الأَوْدي»، والأفوه لُقِّب به لأنه كان غليظ الشفتين ظاهر الأسنان، وكان سيّد قومه وقائدهم في حروبهم، وكان قومه غالباً يخالفون رأيه، ويفعلون عكس ما ينصحهم به، ثم تتم هزيمتهم، ولا يرتدعون عن غيِّهم، أو يعودون للحكمة، بل يزدادون بعداً عن الرأي السديد، وذلك لأن «السراة» وهم القادة بعيدون عن الحكم، والجهال هم من يتولون الأمور.. يقول «الأفوه الأودي»:

فينا مَعاشِرُ لم يَبْنُوا لقومِهمُ

وإنْ بَنى قومُهُمْ ما أَفْسَدوا عادُوا


لا يَرْشُدونَ ولن يَرْعَوا لِمُرْشِدِهمْ


فالغَيُّ منهُمْ معاً والجَهْلُ ميعادُ

والبيتُ لا يُبْتَنَى إلا لـهُ عَمَدٌ

ولا عِمادَ إذا لمْ تُرْسَ أَوْتادُ

لا يَصْلُحُ الناسُ فَوضَى لا سَراةَ لَهُمْ

ولا سَراةَ إذا جُهَّالُهُمْ سادُوا

تُلفَى الأمورُ بأهل الرُّشْدِ ما صَلَحَتْ

فإِنْ تَوَلَّوْا فبالأَشْرارِ تَنْقادُ

«الأفوه الأودي» ترك عالمنا منذ أكثر من 16 قرن من الزمان، وكأنه لا يزال يعيش في وطنه اليمن، أو في الكثر من الدول العربية خصوصاً تلك التي مرّ بها الخريف العربي المشؤوم، وأبيات شعره تصف الواقع بصورة عالية الدقة، عميقة التشخيص، بارعة في وضع الحلول، فالمجتمعات لا تصلح بدون قيادة، والناس يكونون في حالة فوضى بدون أن يكون لهم «سراة»، وهم النخبة الحكيمة، ولكنهم في ذات الوقت يكون فسادهم أكثر، إذا تولَّى أمرهم وساد عليهم الجهال وعديمو الخبرة.

والجهل هنا ليس بمعناه التعليمي أو الثقافي، وإنما الجهل هنا هو عدم امتلاك الخبرة والتحلي بالحكمة، وإتباع طريق الرشد، والعمل للمصلحة العامة، ومن لا يملك ذلك يكون جاهلاً بالمعنى السياسي، لأن المعيار هنا هو القيادة الرشيدة الحكيمة القادرة على تحقيق مصالح شعبها، ومراعاة ظروف الواقع بما يحقق أعظم المصالح وأقل المضار.

غريب حال العرب دائماً ما ينتجون من الحكمة ما يتجاوز حدود الزمان، وغالبا ما تكون حكمتهم لغيرهم أو لغير زمانهم، ويكون معاصروهم في مجتمعاتهم ومن بني أوطانهم محجوبون عن حكمتهم رافضون لها، فيكون الحل في الترحال كما فعل شاعرنا:

فسوفَ أجعَلُ بُعْدَ الأرضِ دونَكُمُ

وإنْ دنَتْ رَحِمٌ منكُمْ ومِيلادُ