الخميس - 25 أبريل 2024
الخميس - 25 أبريل 2024

سيادة الشعوب.. المفهوم الآخر

نصّت الفلسفة السياسية التقليدية على أن الشعب والسيادة مرتبطان بالحداثة، ومنذ الفيلسوف هوبز عُد الشعب في هذه العلاقة أساس سيادة الدولة، وما خضوعه للقانون إلا لأنه فوّض للحاكم، طواعية، سلطة الصياغة والتطبيق، وإذا سلمنا بأزمة السيادة ودعاوى مراجعتها، فعلينا أن نُسلّم بالنتيجة بأزمة مفهوم الشعب والأمة، لأن العلاقة بين هذه المفاهيم جدلية ونسقية.

يطلعنا تاريخ الحداثة أن مفهوم الشعب يحيل إلى تلك التجربة الجماعية المركبة في علاقتها بالهوية وبالسلطة، وأن هذه التجربة تتمتع بقوة تاريخية تجعل من الشعب كلية متعالية عن الدولة وقادرة على الاستقلالية، وإن كانت مؤقتة، كلما طُمست أدواره أو أُلغيت، وهذا ما كان يعنيه الفيلسوف سبينوزا شارحاً ما أسماه «الهيلاريتاس»، بمعنى «المُبْهج»، في معرض حديثه عن الأحاسيس والنوازع السياسية الصلبة باعتبارها خلفية للثورة ولحب العيش المشترك والعادل، لم يعد الأمرهنا يهم قوة الشعب عبرهويته المتعددة ونوعية الإرادة التي يتمتع بها في دفاعه عن السيادة، وإنما يهم نوعية المشروع السيادي الذي يحمله ودرجة تحمله المسؤولية في دفاعه عن تعاقداته مع الدولة.

نفهم من «باولو فيرنو» أن إشكالية الشعب والسيادة ترتبط أساساً بالشكل السياسي الملائم لعالم الإنتاج الرأسمالي الفوردي «نسبة إلى فُورْد»، في مقابل تعددية الإنتاج المرتبط بالمابعد «فوردية» التي حققت ما أطلق عليه كارل ماركس «العقل العام»، أي العقل المنظم للمؤهلات المشتركة في تواصل الأفراد وكيفية توحيد رؤيتهم للمستقبل وتنظيمهم للمجال المشترك.


لكن التطور المعاصر الذي تشهده قوى الإنتاج لا تجعل من السيادة معطى منغلقاً يخص المجال والهوية والتاريخ، وإنما فضاء للتحاور بين سيادات خارجية لشعوب مختلفة، في أفق سيادة كونية مشتركة تكون بموجبها الهويات والخصوصيات التاريخية مكوناً إنسانياً يؤسس المنطلقات فقط، وليس كلاً يجعل من الخصوصية السيادية حقيقة مطلقة، لأن فعل التواصل الرقمي وسرعة نقل الأحداث بالصوت الصورة في اللحظة ذاتها جعل من السيادات المحلية التي تمثلها الدول هشة كلما كانت محكومة بمرجعيات تقليدية للسلطة، ستتخطى الشعوب عقدة الصمت عن حقها المسلوب الذي ضمنه لها تعاقدها مع الدولة بالمعنى الذي أورده هوبز، هذا يعني أن شعوب العالم، كما ذكر جيرار براس، ستسلك طرقاً جديدة غير الطرق التي سنتها لها دولها التقليدية وقد دجنت إرادتها بالقوانين والدساتير المفروضة عليها.


إن معنى الديمقراطية نفسه وبمختلف مضامينه سيعرف تغيراً جذرياً يحدده المسار الجديد لشعوب المعمورة، وسنكون بصدد شعوب منفتحة، أكبر من دولها تحكمها سيادة رقمية غير السيادة التقليدية المرهونة بالدولة.