الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

نحن.. وإعادة تمثيل التاريخ

الأمم تنهض وتتقدم في مضمار الحضارة البشرية، لأن عقولها وقلوبها متعلقة بالمستقبل، مشدودة إليه، تخطط للزمن المقبل لتتخلص فيه من مشكلات اليوم، وترسبات الأمس، ولتوجد حياة جديدة تحقق السعادة لأفرادها، والسلام والأمان والاستقرار لمجتمعاتها.. هكذا أدركت جميع الأمم التي استحقت الحياة، وحققت الحضارة على مر التاريخ، والمسلمون لم يكونوا استثناء من ذلك، بل إن سرعة التغيرات في الصدر الأول من التاريخ الإسلامي كانت مدهشة، فقد تكيَّف المسلمون الأوائل مع الواقع الجديد، وطوروا له وسائل وأساليب جديدة، بل إن كبار الفقهاء كانوا يغيرون فقههم إذا تغيرت البيئة والظروف الاجتماعية؛ مثلما حدث مع الإمام الشافعي رضي الله عنه؛ حين غير فقهه عندما انتقل من العراق إلى مصر، والكلمة الخالدة للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام "علموا أولادكم غير ما تعلمتم لأنهم خُلِقوا لزمان غير زمانكم”.

لكن للأسف حدث العكس في القرون الأخيرة، وانقلبت رؤوس المسلمين فصارت عيونهم في قفاهم، ينظرون للخلف، ويتخبطون في السير، ويتيهون في صحراء الضلال والتخلف، لأنهم ظنوا أن المستقبل في الماضي، وان حركة التاريخ معكوسة، وأن السابق أفضل من اللاحق، وأن المستقبل شرٌ مستطيرٌ، وما على المسلم إلا أن يسعى جاهداً لكي يسافر في الزمن إلى الوراء؛ لعله يعيش في واحدة من تلك اللحظات التاريخية الناصعة الجميلة التي دأب إمام المسجد ومدرس التربية الإسلامية والخطباء والدعاة والوعاظ على تصويرها بأنها الجنة الموعودة، كل هؤلاء المتحكمون في الخطاب الإسلامي يصورون التاريخ للبسطاء على أنه هو الإسلام الصحيح، هو التقوى والإيمان، هو الحياة الطيبة والجنة الموعودة، أما زماننا هذا فلعنة من لعنات الزمان علينا لأننا نعيش مع العصاة والفاسقين.

الخطاب الإسلامي في مجمله خطاب تاريخي، بحيث يصعب أن تجد خطبة جمعة واحدة في طول العالم الإسلامي وعرضه لا يحتل التاريخ أكثر من نصفها، إن لم يكن جميعها، لقد تحول الدين الإسلامي على مستوى الخطاب الديني، والتعليم والإعلام إلى ظاهرة تاريخية، فتربّت أجيال على أن الإسلام تاريخ، والتقوى تاريخ، والبطولة تاريخ، والحضارة الإسلامية تاريخ، والعزة تاريخ، والنصر تاريخ.

وفي المقابل، فإن واقعنا ليس سوى مؤشر لبؤسنا، ولعنات الله علينا لكثرة معاصينا وبعدنا عن الدين، أما المستقبل فغائب بالكلية، بل إنه مجال للفتن والانحراف، ونذير من نذر الشؤم على الخراب والدمار والبعد عن الدين.

نحن ظاهرة تاريخية، ثم بعد ذلك نلعن التاريخ، ونقول: إن التاريخ يعيد نفسه!