الثلاثاء - 19 مارس 2024
الثلاثاء - 19 مارس 2024

نظرية «البو» السياسي

الحكمة مخزونة في تجارب المجتمعات التقليدية، فمن أراد أن يتعلم فليتأمل مجتمعه وتجاربه، وإبداعاته لمواجهة تحديات الزمان وتغيرات الواقع، حكمة المجتمع تنبع من تكرار التجربة، واستقرار الناس فيه على ممارسات معينة بعد تلك التجارب المتكررة، لأنهم لم يستقروا على تلك الممارسات إلا بعد محاولات متعددة من التجربة والخطأ؛ حتى وصلوا إلى الصواب.

ومن حكمة مجتمعاتنا في الريف والبادية أنهم وصلوا الى ابتكار عبقري يسمونه «البو»، للتعامل مع حيواناتهم إذا مات وليدها صغيراً فخسروا ثمرة الحمل الذي لا يحدث إلا مرة في العام، ويوشك أن يخسروا الحليب الذي هو مصدر رزق أساسي للفلاح والبدوي، في هذه الحالة انتهت حكمة الفلاح والبدوي الى أن يتم سلخ جلد الوليد الصغير للناقة الذي يسمى عند البدوي «حُواراً»، وللبقرة الذي يسمونه عجلاً، ثم يتم ملء نفس جلد الوليد بالقش، ويضعونه بعيداً عن أمه؛ بحيث تراه ولا تلمسه؛ حينها تدر حليبها بسخاء وهي تنادي عليه، ولكنه لا يجيب، ولا يتحرك...ولأنها الأم التي هي أصل الأمة تعطي بلا حساب أو أنانية.. ينزل حليبها، فيحلبها البدوي والفلاح، وبذلك يكون «البو» خدعة ذكية لاستدرار الحليب من البقر والنوق.

انتقلت نظرية «البو» من عالم الإبل والبقر الى عالم السياسة، وصارت واحدة من أهم نظريات التعامل السياسي بين الدول وداخلها، بحيث أصبح «البو» ضرورياً للدول لكي تنفذ سياساتها داخلياً وخارجياً.


هذه النظرية تفسر لنا عودة طالبان، واستمرار تنظيم القاعدة في أفغانستان لأكثر من ربع قرن، على الرغم من إمكانية القضاء عليه كما حدث مع حركات ثورية في كمبوديا وأمريكا اللاتينية، لأن القاعدة ووريثها داعش، وبوكو حرام هي في أحد أبعادها نوع من «البو» السياسي اللازم لاستدرار موارد الدول، فلا يقبل عاقل أن تحالفاً من أربعين دولة لم يستطع القضاء على بضعة آلاف معتوه وأحمق في شرق سوريا وغرب العراق، وعندما توافرت الإرادة الروسية تم ذلك في فترة وجيزة، لأن روسيا لم تكن تريد هذا «البو» لتحقيق أهدافها.


نظرية «البو» السياسي مهمة في فهم كيف تعمل السياسة الدولية، وكيف تعمل الكثير من نظم الحكم، وإذا أردنا التعمق في الفهم، والإصابة في التحليل، وتقديم رؤى واقعية فعلينا أن نبحث أولاً عن «البو» السياسي، حينها سنعرف أن الكثر من التنظيمات والحركات التي تم التسامح مع وجودها ليس قناعة بهذا الوجود، وإنما لأنها تقوم بدور «البو» في مواجهة أطراف أخرى.