الثلاثاء - 23 أبريل 2024
الثلاثاء - 23 أبريل 2024

العلوم الطبيعية أم العلوم الإنسانية؟

يطرح كثير من الناس مسألة العلوم الطبيعية والتِّقانة كطريق إلى التقدم والنهضة والابتكار، بل دَعَا بعضُهم إلى مَا يُشبِه قَصْرَ التعليم على هذه العلوم، مُستبعِدين العلوم الإنسانية من فَنٍّ وأدب وتاريخ وفلسفة.

ولا جِدال أنَّ لعلوم الطبيعة دورًا بارزًا في تقدُّم الإنسانية؛ لكنَّها لا تَكْفِي وحدَها، فالفلسفةُ والأدَبُ والفَنُّ والتاريخُ لها أيضًا دورٌ لا يَقِلُّ أهميةً في بناء الحضارة، بلْ يُمكِن القول إنَّ هذه المجالات هي التي تجعل الإنسانَ إنسانًا، وتُنَمِّي فيه الروحَ النقدية والإبداعَ والتعامُل مع الناس، لا مع الطبيعة والمختبرات فحسبُ، والأهمُّ من ذلك كله في نَظَري أنَّها تجعله يُفكِّر بمنهج متوازن ومعتدل، وتُحصِّنه إلى حدٍّ ما مِن العُنف والتطرُّف.

وأخْشَى كما تَخْشَى مارثا نوسبوم، أستاذة القانون والأخلاق بجامعة شيكاغو الأمريكية، أنَّه عندما تُستَبْعَدُ الفلسفةُ والتاريخ والأدب مِن التعليم، أن يَتحوَّل خريجو المدارس والمعاهد والجامعات إلى أناس آليين (روبوتات)، لا يهتمون إلا بتنفيذ حاجات العلم المخبرية بغض النظر عن مصالح الإنسانية التي يُفْترَض أن يكون العلمُ في خدمتها.


فعلماء الطبيعة والتقنيون إذَا لم يَتسلَّحوا بقدر من التاريخ والأدب والفلسفة قد يتحوَّلون إلى أناسٍ ذَوِي أبعاد أحادية، وفي هذا السياق تَنَبَّأ قُطْبُ الصناعة الإنجليزي السير ليون باغريت بأنَّ العالَم سائرٌ نحو نَبْذ التَّخصُّصات الدقيقة التي تركز على مجال ضيِّق لا يُتيح لأصحابه معرفةَ مجالٍ غيره، فيعجزون عن أداء وظائفهم الإنسانية.


هذا لا يعني أنَّه لو قُدِّر للعالَم أنْ يحكمه الفلاسفةُ لأصبح مثاليًّا، كما يعتقد بعضهم، فنحن نجد أرسطو يُسوِّغ الحرب على البرابرة (أي غير الإغريق) بأنَّها تُشبه صيدَ الحيوانات البرية، وكانَ هِرَقليطس من أوائل دُعاة الحرب التي يَراها ضرورية؛ لأنها تجعل البعضَ آلهةً والبعضَ بَشَرًا، ولا يختلف موقفُه منها عن موقف فلاسفة وأدباء محدَثين مَجَّدُوا الحرب والصراع لأسبابٍ مختلفة، ومنهم هيغل، وماركس، وكِبلينغ، فهيغل مثلا أثنى على الحرب وعَدَّها مُنقِذَةً للبشرية من الرذائل.

وإذًا، فالإنسانُ يَظل إنسانًا سواءٌ كان فيلسوفًا أو أديبًا أو عالِمَ طبيعة، لكن لكي يتوازن الكونُ لا بُدَّ من وجود علماء وفلاسفة وأُدباء ومؤرخين، بل لا بُدَّ أن يَضرِب كلُّ مُخْتَصٍّ بسهم صغير أو كبير، في التَّخصُّصات الأخرى؛ لأنَّ ذلك مصدرٌ لتوازنه وفهمه للطبيعة والحياة.