الخميس - 25 أبريل 2024
الخميس - 25 أبريل 2024

أدب الوساطة.. ووساطة الأدب

لما كان إعمارُ الأرض قد اقتضى ارتباطَ الإنسان بعلاقاتٍ متنوعة ومتشابكة، اجتماعيةٍ واقتصاديةٍ وغيرِها، فيؤثرُ ويتأثر، يمنحُ ويأخذ، يقبلُ ويرفض، يلتزمُ ويتأخر، يُقرُّ ويجحد، كان لا بدَّ من نشوء الاختلاف والخلاف، وأن يُعكَّر صفو الود والوفاء كلَّ حين. ومع تنامي النزاعات والخصومات على اختلاف مشاربها، والتي باتت تقضُّ المضاجع وترهق المحاكم، عمدت الحكومات والمجتمعات إلى وسائل بديلة لتسويتها بودٍّ قبل أن تطرح في أروقة القضاء، فيخرج الطرفان بين خاسر ورابح، وقد قُطعت وشائجُ الودِّ والألفة، ودبَّ الشقاق دون رجعة.

إن باحثاً عن عدالةٍ ناجزةٍ يواري طرْفَه عن كتابٍ هو عمدةٌ في أدبيات الوساطة، نشأةً وتأصيلًا، فاته الكثير، فقارئه يستشعر أنه قصيدةٌ نُسجت على أوتار تسوية المنازعات من جمالية الأسلوب، وإحكام الصياغة، ودقة المفاهيم.

إنه كتاب «المدخل لدراسة الوساطة في تسوية المنازعات» لصاحبيه «شريف النجيحي وأحمد حمدان»، وهما من سدنة العدالة القضائية، أبحرا بين شواطئ الوساطة علماً ونهجاً وتأصيلاً، ليسطرا معاً سفراً استثنائياً لا غنى عنه للوسطاء والموفقين والمصلحين والمختصين بتسوية المنازعات لتحقيق العدالة الاتفاقية.


يقع الكتاب في نحو 290 صفحة عبر بابين، يحتضن كل باب 4 فصول تشكل عناقيد الوساطة من حيث المفهوم واللفظ والسياق والقيم والمراحل والعدالة والقانون، وانتهاء بدور الوسيط، ويقدم علم الوساطة في قالب سلس يحتويك، بعيداً عن تجشّم عناء البحث عن مرادفات المصطلحات ونبع روافدها. اعتبر مؤلفا الكتاب الوساطةَ كائناً حياً، عقلها هو قيمها الحاكمة، وقلبها هو أهدافها، وجسدها هو مراحلها. لمس صاحباه جوانب الطبيعة الإنسانية التي تحمل بين جنباتها الخير قبل الشر، فلم يكن المرءُ ليُتركَ أسيراً للَّدد والعنت، ليقال فيه وإذا خاصم فجَر، فمن يملك سلطة الأخلاق يفرض الاحترام والودَّ فرضاً. وأنت تدلف إلى الكتاب تلقاك شذراتٌ من ذهب، غلِّفت بعناية من لا يرجو عن الخير المحض بديلاً، لينتهي بكلمات مفعمة بعميق المعاني: «العلاقات بين البشر أثرى وأعمق من أن يبترها نصٌّ قانوني جامد، أو أن يجمّدها إجراءٌ قضائي عقيم، والعمرُ أقصرُ من أن يضيعَ في ردهات المحاكم وبين ملفات الأقضية وغرامات البنوك».


رسالةٌ ساميةٌ بين دفتي سفر استثنائي في أدب الوساطة ووساطة الأدب، في لوحة بديعة خُطت بأنامل قاضيين قررا أن يبحرا في عوالم التسوية الودية للمنازعات عبر ميناء الوساطة.