الجمعة - 19 أبريل 2024
الجمعة - 19 أبريل 2024

المياه منابع الثقافة المجتمعية

كتب" بول كلودل" في" مقامات ومقالات": أن كل ما يرغبه القلب يمكن دوما أن يُختزل في صورة الماء"، وهو قول يستمد صدقه من تلك الأشكال التي يرمز إليها الماء في الحياة، والأدب والمجاز اللغوي؛ فالماء يشكل حالة من تلك التقلبات التي تجتاح الكون فهناك المالح والأجاج والعذب الزلال.، كم أنه هو القوة والعنف والهدوء والدعة.

إن الماء بوصفه شكلا من أشكال الصفاء يمثل التطهر الحسي والمجازي، ولأنه كذلك فإنه ترميز للقيم الأخلاقية والسلوكية التي ارتبطت منذ القدم بالطقوس والشعائر، وهكذا سيرتبط الماء بالحياة والأحلام وسترتبط صفاته بكل مناحي الحياة، حتى الاقتصادية منها؛ حيث ارتبط منذ القِدم بحياة المجتمعات وأحقيتها في الحصول عليه؛ ومن هنا سنجد أنظمة تقسيم الأثر المعروفة في تقسيم مياه الأفلاج في منطقة الخليج العربي، وحساب النجوم المرتبط بالبحر وغيرها.

وفي التراث الثقافي لا يرتبط الماء بالواقع واللغة المجازية وحدهما، بل إنه أيضا ارتبط بالخيال والحكي؛ ذلك لأن منابع المياه ارتبطت دوما بالحكايات الشعبية والأساطير التي تُروى منذ القدم عن ذلك المارد الذي يسيطر عليها، ويتحكم فيها، فيسمح بها أو يمسكها على الناس، وعن تلك القرابين التي لابد أن تقدم من أجله، بل أساطير تُحكى عن أبطال تغلبوا على ذلك المارد الذي كان يمنع تدفق المياه في الأفلاج حتى تُقدم له الأضاحي.


والمدهش في تلك الأساطير أن المجتمعات لا ترويها وحسب، بل إنهم يؤمنون بجوهرها العام، لنجد أن هناك مواسم لصدقات منابع المياه، تقام بشكل مجتمعي مشترك. هي صدقات لوجه الله تعالى، وطلبا لتدفق منابع المياه بالماء العذب الزلال وغزارته.


إن التراث الثقافي للماء يرتبط بحياة المجتمعات من ناحية، وبالتوازن بين الإنسان والطبيعة من ناحية أخرى، فلكل مجتمع ثقافته الخاصة ونظرته للماء، كونه تراث يرتبط بقدرة الإنسان في المجتمع بناء على هذه العلاقة وتنويعها، وبناء على منابع المياه المتوفرة في موطنه. فلكل مجتمع معتقداته وبنيته التقنية التي سيبني عليها معارفه التي ستوجه ممارساته الاجتماعية ومخياله وجدانه.

فالماء بوصفه أحد منابع التراث الثقافي يُنظر إليه بوصفه شكلا جوهريا لمجموعة من القيم والمعتقدات المؤسسة للممارسات المجتمعية، والأمر هنا لا يخص تلك العادات والتقاليد ولا المجازات اللغوية، والحكي السردي وحسب، بل أيضا يختص بمناحي الحياة الثقافية الأخرى، ذات البعد الاجتماعي والنفسي بل حتى السياسي والاقتصادي.