الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

مرضى الجوائز الأدبية

فكرة الجائزة الأدبية، شيء نبيل وجميل لأنه في النهاية يكرم جهداً نما وكبر في الظل دون انتظار أي شيء، سوى قارئ الصدفة.

فلم يكتب نجيب محفوظ لينال جائزة نوبل مثلاً، ولا غونتر غراس ليحصل على اعتراف كبرى المؤسسات الثقافية العالمية، بل ظل مناضلاً ومضاداً عملياً لكل المؤسسات القهرية. لقد كتب المعري في «رسالة الغفران» ضمير عصره وأثار أسئلته الوجودية الحيوية، ولم ينل من ذلك إلا المصاعب، فخط مكانته الأبدية في الذاكرة الجمعية الإنسانية. ولم يكتب تولستوي لينال رضا أية مؤسسة ثقافية كبيرة، فقد كانت الكتابة حديقته العظيمة التي يجد فيها استراحته وبساطته، لدرجة أن تجرد كلياً من منافعها الزائفة، ومات وحيداً في محطة قطار باردة.

وكتب مارسيل بروست «في البحث عن الزمن الضائع» التي غيرت نظام الرواية، فنال من ورائها اعترافاً تاريخياً جعله في أعلى منصات الأدب العالمي. وأخطأت نوبل روائياً استثنائياً هو نيكوس كزنتزاكي، لكنها لم تسرق منه ضوء الكاتب الإنساني العظيم.

إن الأمثلة لا تحصى، حيث تصبح الجائزة ثانوية أمام عظمة الإبداع، ففي العالم الغربي ما تزال الجائزة لحظة ثقافية، وحادثاً مهماً، لكنه عرضي من ناحية الكتابة. إن الجوائز الكبيرة في العالم العربي جديدة نسبياً على المشهد، وبدل أن تؤخذ من موقعها الإيجابي والإنساني الجميل، تحولت إلى شيء مقصود لذاته في الوجدان الخاص للكاتب، الذي لم يحصل على جائزة معترف بها، فلا قيمة لما يكتبه، ومع أن الكثير من الذين حصلوا على جوائز انطفأوا، والكثير ممن لم يحصلوا عليها، يكتبون بحضور وإشراق، فالمعارك حول الجوائز العربية لا تتوقف، وفي كل يوم تثار قضية مصدرها جائزة ما.. فُتشتَم الجائزة، والجهة المشرفة عليها، وفي اليوم الموالي يترشح الشتّام لنفس الجائزة، وإذا حالفه الحظ في القائمة الطويلة تصبح الجائزة عظيمة.

وأكثر من هذا كله ما سمعته في الجامعة من بعض زملائي، فأصدق بعدها أن الجوائز على نبلها، خلقت مرضاها، فهذا كاتب لا يتوقف عن ذكر الجوائز الغربية التي فاز بها، وفتوحاته الأدبية التي غابت عنه في العالم العربي لأنه لا يعرف قيمته لأنه فاز بجائزتين عالميتين تكريماً لأعماله، وفي مسابقات شارك فيها – طبعاً - كبار كتاب الكرة الأرضية، وينسى المسكين أنه تحول إلى مسخرة، لأن عالم اليوم أصبح عارياً كلياً ويستطيع المهتم أن يختبر الادعاءات، وطبعاً لا وجود للجوائز التي ذكرها.


مثال صغير لذكر الحالات المرضية التي آلت إليها ليس الجوائز، فهي لا تزال قيمة ثقافية مهمة كيفما كانت آراؤنا في الكثير منها، ولكن البشر الذين يريدونها ولم يحصلوا عليها، نلمس بسهولة حالة استفحال الجانب المرَضي القاسي الذي يقودهم نحو الهاوية حتماً.


إن العالم العربي يحتاج إلى علم النفس الإكلينيكي المتخصص في مرضى الجوائز، أو ساندروم الإخفاق الأدبي، وهذا ليس مزاحاً لكنه الحقيقة العارية، لأن المرض يستشري.