الخميس - 25 أبريل 2024
الخميس - 25 أبريل 2024

لقاء التاريخ.. جنرال وكاتبة

لا شك في أن إيزابيل إيبر هارت الصحافية والكاتبة الكبيرة سُرقت حياتها في وقت مبكر، والتي أحبت الجزائر وانتسبت لها بعد أن أسلمت، لكنها ظلت تزاول عملها الصحافي كما لو أنها فرنسية أو سويسرية أو روسية، لأنها في عمق الجنسيات الثلاث.

لقد اختزل بعض الكتاب قصة إيزابيل إيبر هارت بأنها جاسوسة وتعمل لصالح الجنرال الفرنسي هيوبير ليوتي، وقت الاستعمار الفرنسي للجزائر، وأصبح كل عملها الثقافي وأدبها وحياتها مُجَيَّرة لعلاقاتها بليوتي، مع أنها كانت شيئاً أكبر من ذلك.

عندما اندمجت إيزابيل في المجتمع الجزائري، اختارت الجنوب، لأنه كان مناسباً لها روحياً وثقافياً، وراحت تجوب الصحاري باسم مستعار متنكرة في لباس ذكوري، وكان عليها أن تجد مسلكاً في المناطق التي كان يسيطر عليها الاستعمار.


كانت تحب الزوايا، وأحبت لالة زينب، شيخة زاوية الهامل، ولكن لا يمكنها أن تمر إلى تلك المناطق إلا برضا المسؤول عن المنطقة، فوقتها كان الجنرال ليوتي الذي تعرف عليها وأُبهر بجرأتها وذكائها، وأُبهرت هي بجنرال بروح أديب، وجُبة عسكري.


هذه العلاقة جلبت لها سخط كثيرين في المنطقة، فقيل إنها تتبادل معه المعلومات، لأنها كانت تُمضي معه وقتاً طويلاً وهو ما لم يكن متاحاً لصحافيين آخرين، وبالرجوع إلى الوثائق، نكتشف، بسهولة، أن الإعجاب كان حاضراً، بل كان هو الأداة المحركة للقائهما التاريخي: جنرال وكاتبة.

هي التقت بالجنرال الذي كانت تنتقده بلا هوادة، بانتقادها للمؤسسة العسكرية، وكان يقبل منها ذلك، ولكن بالمثقف الذي يحادثها عن زولا ومحنته في قضية دريفوس التي فجرها بشجاعة، واتهام المؤسسة العسكرية ومطاردته لدرجة أنه هرب إلى لندن، بعدما كتب رسالته الشهيرة «إني أُتَّهم».

كان يحدثها أيضاً عن فيكتور هوغو البرلماني المنتقد والثائر وحليف الفقراء، وشخصية غافروش، وعن فلوبير وقسوة الفرنسيين عليه، بعدما كتب مدام بوفاري، إذ اتهموه بمديح الفساد الأخلاقي واسترخاص الحصانة الزوجية.

كما كان يقضي وقتاً برفقتها، وهو يحلل في لوحات موني، كانت إيزابيل معجبة، بليوتي الذي يخفي داخله فناناً، بعينه الفنية والنقدية، فكانا يسهران طويلاً وهما يتناقشان في الأدب والموسيقى، وتحقيقاتها في الزوايا واكتشافها لنظام حياتي مختلف، سحرها كلياً.

كانت إيزابيل الوحيدة التي تتحصل على ترخيص للمرور نحو المناطق العسكرية، للقيام بالتحقيقات الميدانية في زوايا كثيرة، منها: زاوية الهامل التي كانت تديرها امرأة، وعرفت من خلالها، كم أن للمرأة دوراً حاسماً في الحياة الروحية وليس المادية فقط.

إن التسهيلات التي كانت تتحصل عليها، مصدرها علاقة ثقافية عميقة ومشترك الانشغال الأدبي والفني، ويكفي أن نعرف، اليوم، أنها مدفونة في المقبرة العامة لمدينة عين الصفراء الجزائرية، وهو من شيَّد قبرها يوم تُوفيت في فيضانات وادي عين الصفراء، التي جرفتها سيوله، وعُثر عليها ميتة بعد أيام، وهو من كتب شاهد قبرها، وإلا لضاعت بين آلاف القبور التي لا تحمل شواهد ولا أسماء.