الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

انحياز الخيال الروائي للمدينة

في العمل الروائي، لا تكون الأمكنة كما هي بالضبط، وكما يقول باشلار «نحن لا نعيش في الأمكنة بشكل موضوعي، بل بكل ما لخيالنا من تحيز».

نعم، إن خيالنا مهما أراد الاقتراب من الواقع، فإنه لا يشبه عمل آلة التصوير التي توثق المكان كما هو، فهو ينحاز لطريقة رؤيتنا الخاصة لهذا المكان، لذلك كانت المحلة التي هي مسرح أحداث روايتي الأولى، تشبه السفينة، حيث يشكل برج المأمون ساريتها، وبرج الزوراء قمرة القيادة، بينما ساعة بغداد، هي المرساة الملقاة على رصيف الميناء.

بدون انحياز خيالي لا يمكن تصور منطقة سكنية على أنها سفينة مهددة بالرحيل، حيث كان البغداديون في تلك الأيام يشهدون أكبر موجة هجرات خارج البلاد، بسبب الحصار الاقتصادي، ولأنني أعرف أن الهجرة يمكن أن تدخل تفكير أهلي، لذلك كنت أهاجر بالمدنية نفسها، فهي مكان السفر ووسيلته.. لقد كان خيالي منحازاً إلى مشاعري العميقة.

نحن نعرف أن الرواية هي ابنة المدينة الحديثة، وظهرت للوجود بعد ظهور المدن المعقدة التي فككت العلاقات القديمة، وأعادت بناء شبكة جديدة من العلاقات، فكل مدينة هي مكان محتمل لآلاف الروايات وملايين الحكايات، وبغداد ليست استثناء، لكن ميزتها أن فكرتها كمدينة أكبر من حقيقتها، لذلك فإن الخيال فيها يحمل معه ما يعرف بسحر الشرق، وهذا ما لم أستطع تجاوزه في تصوري حين اخترعت عالماً سماوياً، وذهبت من هناك أراقبها من فتحة صغيرة في سماء بعيدة.

المدن كبيرة، لكننا نرتديها مثل معطف حول أجسادنا، وقد يشكل وجودنا نقطة صغيرة في مساحتها، لكننا نستطيع أن نستوعبها كما لو أنها شيء منا.

ليس ضرورياً أن تكون ذكرياتنا عن الأمكنة دقيقة.. المطلوب أن تكون حقيقية، وهو فرق كبير بين الدقة التي تقدمها الصورة الفوتوغرافية، وبين ذكريات حزينة يسردها مهاجر عن بيته ومنطقته ومدينته.