الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

الشعر متعة داخل الموت

هل انتهى الشعر، وماتت كل رهاناته الفنية والتاريخية والإبداعية؟ لماذا فقد اهتمام الناس به واختصر كثير من الشعراء المسافات، فذهبوا نحو الرواية لدرء الفراغ الذي أحدثه فيهم موت الشعر كما يقول كثيرون، وربما لأن الرواية تمنحهم الجوائز وبعض المقروئية؟

لكن في النهاية أليس الشعر مغامرة في لعبة الحرية القصوى التي لا تقبلها السياسة؟ وإلا ما معنى أن نكتب شعراً إذا خلا من المغامرة الجميلة والقاسية أيضاً؟ كيف نفهم إذن جنون شاعر القرون الوسطى رونسار مع اللغة وبحبيبته هيلين؟ كيف أحببنا آرثر رامبو لو لم يكن في شعره شيء من دهشتنا؟ ألم تكن أحزان السياب هي ثيمته الشعرية المركزية؟ لماذا مات الشابي مبكراً وفمه مملوء بالطفولة ورغوة الشعر؟ كيف ارتقى أدونيس بالشعرية نحو المصاف العالمية العالية؟ لم يكن عراكه مع لغته أمراً هيناً؟ فأن نقول شعراً يلتبس بالحياة والتاريخ، هذا يعني أننا نملك قابلية القول الحر.

وأن نكتب، معناه أن نقبل أختام حرقة النار على صدورنا وفك طلسمية الحياة باللغة، من هنا فالكتابة الشعرية متعة داخل الموت، وكلما قرأنا شعراً بحثنا تلقائياً عن الإنسان المتخفي في اللغة وفي النص، ولهذا عندما يقال: إن الأيديولوجيا تقتل الشعر، فليس كلاماً فجاً، لأن الشعر مكتفٍ بذاته، ولا يقبل الزوائد المنهكة له.


إن الأيديولوجيا لا تقتل اللغة فقط ولكنها تقتل الإنسان الذي تعبر عنه، تصطف اللغة لا بجانب فكرة وتقدسها، ولكن بجانب هاجس يحميها حتى من نفسها، على العكس من الرواية التي تتحمل بنيتها كل شيء، مع أن للشعر قوة داخلية تمنعه من الموت، فموت الشعر هو ببساطة موت الإنسان، لهذا يقاتل الشعراء ضمن أفق الأقليات الأدبية ليظل الشعر قائماً حتى يستمر الإنسان في وجوده، فعفويته أو لحظته الأولى هي المبرر العميق لكيانه ووجوده.


ومن هنا، فالذين يقولون: بموت الشعر، لا يعرفون مطلقاً أن هذا الموت إذا حصل يأخذ في مسلكه الحارق الإنسان كله، وانتهاك الشعر اليوم هو انتهاك لطفولة الإنسان وللحظته الأولى، والمشكلة إذن ليست في موت الشعر، ولكن في موت أرستقراطية لغته التي تسرقه من كم كبير من جمهوره الافتراضي، وتدفع به نحو الخاصة الثقافية.

كانت حاملات القرابين والمنشدات في الشعر الإغريقي القديم، يتكلمن لغة واحدة تمس القلب، بعيدة عن الخاصة، وقريبة من الحكي اليومي والضرورة التي تحكم الإنسان داخل شرطية القسوة، فأيّ بلاغة قاسية تسكن لغة هوميروس في الإلياذة والأوديسة؟ ربما كانت الاستعارة هي مقتل الشعر اليوم لأنها حولته إلى طلسم تتلذذ الأقلية بتفكيكه وفهمه، لهذا كثيراً ما عمدت القصائد العالمية اليوم إلى الخروج من هيمنة الاستعارة وبلاغة الصورة المثقلة بالمترادفات، باتجاه لغة ببساطة وألوان ونعومة الفراشة، والهايكو الياباني دليل قاطع على ذلك، والشعرية ينشئها القارئ أيضاً بتشغيل حواسه الحية كلها، لتكتمل الدورة العلائقية في الأدب.