الجمعة - 19 أبريل 2024
الجمعة - 19 أبريل 2024

الأماكن حين تشتاق

في نهاية عام 2003 اضطُرت عائلتي للهجرة خارج العراق.. كان المنفى بالنسبة لي لا يمثل علاقتي بالوطن فحسب، بل بالمنزل الذي قضيت فيه طفولتي، فقد ترك الفراغ الذي أورثه غيابنا في البيت صورة لا تغيب عن ذاكرتي، حين شعرت بنبض المكان وهو يرتجف لفراقنا.. رحلت، بينما ظل ذلك المنزل هو عقدتي التي لا تموت.

منذ ذلك الوقت، والأحلام تراودني عن المكان وهو يئن من آلام وحشته، لا أعرف في الحقيقة، هل المكان يشتاق حقاً لأهله أم أن أرواحنا هي التي تؤنس الأشياء، وتمنحها هذا الدفق الشعوري المنفلت من شعورنا نحوها؟

في كتاب جماليات المكان، يتحدث غاستون باشلار عن عقدة المنزل الذي يألفه الإنسان في طفولته، ويعتقد أن البيت هو مكان الهناءة الأولى الذي يمثل للإنسان فكرة الأمان المنزهة من أي مسؤولية، ويعتقد أيضاً بأن الإنسان لو رحل مبكراً عن بيت طفولته، فإن ذلك المكان سيستوطنه إلى الأبد.

وفي مقاربة حزينة وتراجيدية، تثير مشاهد الشوارع الفارغة في كل أنحاء العالم، حزناً قديماً في داخلي، ربما كانت الصدمة أكبر عندما شهدنا للمرة الأولى الفضاءات العامة تخلو من حركة الناس، ما يسمح لي بطرح أسئلة، من مثل: كيف تعيش هذه الشوارع غربتها للمرة الأولى؟ وهل تشتاق إلى الضجيج؟ وهل تمارس حريتها في عزلتها تلك، أم أنها مذعورة مثلنا من هذا الخواء الهائل الذي يغزو الكوكب؟

كنتُ أؤمن فيما يخص أسطورة البيوت المهجورة، أن المنازل المسكونة بالأشباح ليست بالضرورة أن تكون في مواجهة مع أشباح من الأموات، فالاضطراب الهائل لشعوري نحو منزلي الذي هجرته طوعاً، يمكنه أن يخلق لي ظلاً هناك، يمارس ما عرقله الواقع عن ممارسته.

وانطلاقاً من هذا الاضطراب الشعوري في الحاجة إلى أماكننا والرغبة العميقة في إعادة الحياة لشوارعنا، متاحفنا وأسواقنا مرة أخرى، تنطلق ظلالنا لتؤنس الأماكن التي تبادلنا الاشتياق، ربما، تسمينا أشباحاً.

أشباح تحلم أن تعمر الحياة من جديد عندما يحين موعد اللقاء.

نحن الأحياء أيتها الأرض، حاربنا الموت بالتخلي عما نحب، لكننا لم نكن نعرف أننا بلا أماكننا أشباح تتوق إلى ضجيج الحياة مرة أخرى.