الجمعة - 19 أبريل 2024
الجمعة - 19 أبريل 2024

شيء عن الخيبة والمنفى

للجُرح وجهان، وجه ظاهر تخفيه مساحيق المجتمع والتوافقات المختلفة، ووجه عميق لا يبرأ بسهولة، حتى الثورات التي كان يفترض أن تعيد ترتيب الأشياء وتمنحنا مجمعات رومانسية جميلة، هي إما تيارات قروسطية «من القرون الوسطى» أعادت ساعة التطور إلى الوراء قروناً، أو خراباً فوق الخراب الروحي الذي نجره وراءنا منذ أن خسر العرب حربهم الكبرى ضد الصهيونية.

لم يقتصر المنفى على المثقفين كما هي العادة بعد الحروب الكبرى، ولكن على موجات تعد بالملايين التي اضطرت إلى تغيير مدنها، وحتى بلدانها، منفى لا تخفف من شجونه وأثقاله إلا الكتابة، كأن الرابط بين الكتابة والمنفى يكاد يكون عضوياً، لا أتحدث عن المنفى الاختياري فذلك قد يكون خفيفاً، لأنه يحتوي في داخله على فكرة الخيار الفردي، ولكن عن المنفى القسري بحيث يجد المبدع نفسه في مسالك شديدة الصعوبة كونها مسالك للحرية الصعبة، وعليه أن يتعود عليها حتى لا يقهر داخلياً.

فهل المنفى بالنسبة للمبدع فعل مضاد للكتابة مثلاً؟ سؤال يتكرر كثيراً، جربه الكُتاب المنفيون الألمان في الفترة النازية، هل هو قيد يجره المبدع وراءه كقدر لا يمكن تفاديه ولا ينتهي وجوده إلا بنهاية المبدع نفسه، أم هو فيض من حنين مستمر في الزمان والمكان، ينتهي بصاحبه إلى أحضان العزلة والإنجاز الفني الذي يحمل في عمقه كل هزات التجربة الحياتية؟


الكاتب، عموماً، هو في عمق المنفى من حيث هو كاتب، فاللغة تصنع عالماً موازيا يعج بتفاصيل الحياة التي نحس بانتماءاتها لنا، ولكنها لا تنتمي في نهاية المطاف إلا إلى اللغة ونظامها الصارم، وإذن أين يتجلى هذا المعنى العميق الذي تنهض عليه هذه الكلمة المولدة للخوف ولمختلف الاهتزازات الداخلية؟ وهل المنفى مثلاً هو افتقاد الأرض التي شيد عليها الفنان ذاكرته وأشواقه؟ فكم من أرض يملك الكاتب إذن: أرض الطفولة التي يفقدها في سن مبكرة، ولا تستعيدها إلا الكتابة بشهواتها المختلفة ومخيالها الذي يهزنا بمتعته كلما توغلنا فيه مثلما حدث لفلاديمير نابوكوف، طوماس مان وابنه كلاوس مان، نيكوس كزانتزاكي، كاتب ياسين، ابن حزم، ابن رشد، ابن خلدون وغيرهم، أليس فعل الكتابة عن المكان هو اعتراف ضمني بالفقدان؟ وهل المنفى إذن هو الارتحال عن الأرض التي ليست هي الأرض الأولى، باتجاه أرض أخرى يفترض أن تمنح الفنان المنفي الأمان والمحبة وبعضاً من الراحة والحرية على الخصوص؟


وعن أي شيء يبحث الكاتب إذ يقبل بالرحيل نحو المنافي؟ عن وطن الحياة الكريمة، والعيش الحر، حيث يمشي ولا يلتفت وراءه كلما سمع وقعاً غريباً لأحذية خشنة؟ عن وطن الكتابة الذي يُنشئ فيه كل حياته الموازية الجميلة؟

وإذن ما هي الخسارات اللاحقة المتولدة عن هذا الترحيل القسري من أرضه الصغيرة التي نبت في حدائقها كأي زهرة برية باتجاه توطين ليس دائماً فعلاً هيناً؟