السبت - 20 أبريل 2024
السبت - 20 أبريل 2024

الكتابة المعيارية.. الحكم بين الجيد والرديء

في مقدمته الرائعة للأعمال القصصية الكاملة لغسان كنفاني، تطرق الروائي الدكتور يوسف إدريس إلى قضايا نقدية متعددة ومهمة جداً، منها الفرق بين أن تكون كاتباً موضوعياً أو محايداً، وأن تكون كاتباً صاحب قضية، كما عرج إدريس على مسألة مهمة في الدراسات النقدية تتعقد خيوطها يوماً بعد يوم، وهي مسألة الكتابة المعيارية.

يشير الدكتور إدريس إلى أن من أسماهم (فقهاء الأدب وكهانه) ظلوا دهوراً عديدة يعلموننا ما ينبغي أن نتعلمه وما ينبغي ألّا نتعلمه، وخاضوا في جدالات نقدية وأدبية حول مميزات الأدب الجيد والرديء، وهذا الطرح السابق لعهده الذي تطرق إليه إدريس في وقت كانت الأعمال الأدبية محدودة وبراقة، يمتد حتى وقتنا الحاضر الذي يعاني من التخمة في الإنتاج الأدبي من جهة، وتتدخل جهات عديدة في انتخاب الأعمال النموذجية وتنصيبها أفضل رواية للعام وأفضل قصدية وأفضل مجموعة قصصية، ما يؤسس لحالة معيارية توجه القارئ نحو إنتاج أدبي معين دون سواه، وتتجاهل أعمالاً فنية أخرى ربما تكون أفضل منها جودة.

في السابق كانت المعيارية تتأسس كما أشار الدكتور إدريس عن طريق اتجاهات تعليم الأدب في المدارس أو الجامعات، أو عن طريق الجدل النقدي الذي كثيراً ما كان يتحول إلى اشتباكات ثقافية عبر الصحف أو الندوات المفتوحة، أما اليوم فتتأسس المعيارية عبر صفحات التواصل الاجتماعي بين القراء من فئات واتجاهات متعددة يغلب عليها الاختيار الانطباعي، أو تمكن الأديب من إدارة حسابه والترويج لأعماله.

لكن أهم آلية للترويج لأعمال فنية معيارية هي التي تجري في قاعات مغلقة في المسابقات الأدبية الكبرى، وتصدر النتائج تشكيلة من اللجان لا تقتصر على النقاد أو الأدباء فقط بل يتخللهم صحفيون أو مثقفون، ما يطرح أسئلة جادة حول موضوعية النتائج أدبياً أو ثقافياً، كما أن مجريات المسابقات وحيثيات إعلان النتائج لا يواكبها طرح نقدي منهجي يفكك الأعمال الفنية الفائزة، ويتناول جوانب التمكن والتجديد فيها، وهو ما يغلف النتائج والمسابقات عامة بغلاف دعائي لا أكثر.

وفي الوقت الذي تتراجع فيه الذائقة الأدبية، وتطغى ثقافة الصورة مكان الكلمة المقروءة، ويستبدل الفضاء العمومي الأفلام ذاتية التصوير على منصات إنستغرام وسناب شات بدل قراءة الروايات والقصص القصيرة، تصبح المعيارية ذات جدوى لو يؤسس لها تأسيساً جاذباً يتضمن معايير فنية عصرية لجمال الفكرة والبنية، فقيمة الأدب الإنسانية تستلزم ألّا نتخلى عنه، وألّا نروج لأعمال فنية هي أقل مما يمكن أن يمثل أدب عصرنا الحاضر.