الخميس - 28 مارس 2024
الخميس - 28 مارس 2024

السيلفي.. وصناعة الواقع

كثيراً ما استوقفتني مشاهد أشخاص «السيلفي» وهم يحركون هواتفهم وكاميراتهم يمنة ويسرة بغية التقاط صورة، في خلفيتها يقبع مبنى أو شارع تجاري أو معلم أثري، لا يلبثون بعد توثيق وجودهم بجواره وزيارتهم له تركه لأخذ سيلفي آخر في يومهم القصير الحافل بالصور، التي ما تلبث بدورها التوجه مسرعة صوب نشرها في وسائل التواصل الاجتماعي.

حيث أغلبها ليس لقبيل طرح نقاش جاد أو نشر معلومة، وإنما لقول: «لقد كنت هنا بينما أنتم قابعون في بيوتكم خلف شاشات حواسبكم وهواتفكم تتابعون ما أنشر لكم، ومرسلين عشرات اللايكات والإعجاب لما عرضته لكم»، وبذلك يكون المرسل والمستقبل جزءاً من عالم افتراضي موازٍ للواقع، ولكنه مختلف عنه من حيث المبادئ المشكلة لأخلاقياته وتعاليمه الإنسانية والقانونية والعرفية، فزِر الإعجاب الممثل افتراضياً للاستحسان بات وسيلة مجاملة رقمية أكثر من كونه مشاعر بشرية حسية صادقة تلهج بها الألسن وتظهر بها الوجوه، فيما عدم الإتيان به يثير السخط والغضب والنقمة، ليشعل حروباً افتراضية فحواها الأنا الغارقة في الشهرة والتمظهر بما لا يعكس الواقع.

التكنولوجيا الرقمية التي صنعتها رغبة في مشاركة المعلومة حين بدأت؛ تحولت لمنجم يدر ماساً على الشركات الكبرى في العالم التي تسيره، فكل شيء بات لتسويق منتج، لا يقتصر وجوده على السلعة الاستهلاكية بمعناها المجرد، فالفكرة والأيديولوجيا وحتى التاريخ والعلم والثقافة تمت رقمنتها لا لنشر المعرفة، وإنما للتوجيه والاستقطاب وبث الشائعة والكراهية وتحقيق الانتصارات بعيداً عن حروب تقودها جيوش تقليدية.


في العالم الافتراضي الذي غزته برامج الدردشة والحوار المصطنعة بات الكلام من أجل الكلام لا في سبيل النقاش، وأضحت الصورة رمزاً للابتذال بدلاً من الذكرى، التي أُفرغت من فحواها الماس لجوهر أرواحنا التواقة لنوستالجيا الماضي، ليدخل على حسابها فئات من المشاهير الجدد للساحة حاملين معهم خصوصياتهم التافهة، ومستعرضين بها للجموع المتفاعلة معها بالمشاهدة والتقدير الافتراضي، الذي ينال جزءاً يسيراً منه حاملو لواء التفاهة الذين يظهرون بها، فيما المستفيد الفعلي هو القوة الحاضنة للوسط الذي يظهرون فيه، والمليء الدعايات والإعلانات، التي بدورها تحرك الدولاب كل يوم بوسيلة جديدة تضمن لها انتشار التفاهة المستقطبة لجيل التكنولوجيا السطحي، والمهمشة في الوقت ذاته لأصحاب العقول والفكر الذين انحسرت إضاءاتهم وسط الإيقاع السريع.