الجمعة - 19 أبريل 2024
الجمعة - 19 أبريل 2024

أرباب الطرب القاتل

التراث الغنائي لأي مجتمع يعكس ذائقته، ومزاجه، وقيمه، ويوثّق لذاكرة أجيال أنتجت وتربت على هذا اللون من وسائل التعبير الإنساني، ويقال في هذا المجال: «أخبرني ماذا تسمع، أعرف من أنت!»

فالإنسان يبدأ بسماع مناغاة أمه من قبل أن يبصر النور، ومن ثم على هَدْهدَتها حتى يغفو في مهده، ومن ثم يشّب على ما يلتقطه سمعه في البيت وعبر المذياع والتلفزيون، فضلاً على ما يعلق بأذنه من ذوقيات الشارع!

الذائقة السمعية تتربى شأنها شأن الذوقيات الأخرى، كالملبس والمأكل وغيرها من الذوقيات التي تُشكّل هوية الإنسان وسماته الأساسية.


فالإنسان الحضري يمرّ يومياً بتحولات رغماً عن أنفه، بعكس ابن البادية الذي ما زال يطرب لحدو الراعي ودقّ المهباج، ويأنس بصوت الربابة وغثاء الماشية وعسف الرياح ونسائم البرّ وصهيل الخيل.. بيئة نظيفة بِكر حافظت على مزاجه من التلوث والتي وحدت الكلمة والألحان، وأصبحت أشبه بأناشيد طابور الصباح.


أما اليوم، فأصبحت الأغاني أشبه بوجبات «التيك أواي» سريعة الذوبان، لا ذاكرة لها ولاطعم ولا وقع في النفس، فما أن تطفو على السطح حتى تتوارى في قاعها!

غابت المفردة بحِسّ الشاعر بإيقاع جاهز، وتوحدت الأغاني فبارت الأذواق، إلا من رحم ربي!

في زمن الأصالة.. عصر الكلاسيكيات الخالدة، كانت هناك ضوابط ومعايير وشروط لمنح الأغنية ومطربها تصريحاً بإذاعتها، فكانت هناك لجان متخصصة ترعى ذائقة المجتمعات وتحرسها من التلوث.

أمّا اليوم، فهناك أجيال يتم تغذيتها بترهات وكلام مسلوق أو فارغ، يجري على ألسنتها بلا وعي، فإن لم يكن ملغماً بالعنف والكراهية، فلا يخلو من العبارات الإيحائية أو الإبتذال، أجيال تم إفساد ذائقتها على يد أرباب الطرب القاتل!