الجمعة - 19 أبريل 2024
الجمعة - 19 أبريل 2024

معركة الهواء

في روايتي الثانية، والتي أنتظر الوقت المناسب لنشرها، تحدثت بطلتي عند قبر أمها بلغة حزينة، بمثل تلك التي تستحقها مناسبة موت أم لتقول:

ــ نحن نشعر بالذنب من الموتى، ربما لأننا نستهلك حصتهم من الأكسجين.

لا أعرف كيف قفزت هذه العبارة إلى رأسي واحتلت مكانها في لحظة الحزن العميق من الكتابة، لكن هذا ما حدث، فكثيراً ما تكتب الروايات نفسها، على الرغم من نوايا المؤلف، وفي كل المراجعات التي أجريتها على النص، كنت أتوقف عند هذه العبارة أفكر في تغييرها ثم أعود وأغير رأيي فجأة.


هل نشعر بالذنب فعلاً لأننا نتنفس الهواء؟.. ما الهواء؟.. ما هذا الإكسير الذي بدونه لا وجود للحياة؟


عاشت البشرية وهي تخشى شح الغذاء، وقلة مصادر المياه، ولهذه الأسباب شنت الحروب، ومات الملايين من الناس من أجل احتلال منابع الأنهار، لكن أحداً لم يخبرنا أن حرباً حدثت بسبب الهواء.

فحرب الهواء الوحيدة، هي تلك اللحظة الأخيرة التي يصارع فيها الإنسان وحيداً من أجل الشهيق الأخير، وفي هذه الأيام، التي يموت فيها الناس بسبب نقص الأكسجين في دمائهم، أصبح للهواء ثمن بدونه لن نستطيع أن ننقذ أرواح أحبتنا.

عدت إلى العبارة في الرواية، ودققتها جيّداً، ثم قلت لبطلتي:

ــ من أين لكِ هذه الجملة المجنونة والمخيفة؟

في الأسبوع الماضي، شحت أسطوانات الأكسجين في مدينة ذي قار، جنوب بلدي العراق، وأفرغ الهواء من رئات الراقدين في المشفى، فغرقت المدينة بالدموع وبكى معها الوطن.. حقاً هل كل ما ينقصنا بالفعل، هو هذا الهواء الذي حولنا؟ وهل بكينا وفرة الهواء وشحة الأوكسجين؟

ما أرخص الهواء كما يقول المثل العراقي، وما أغلى الأكسجين، حين يشح على أغلى الناس الذين نحبهم ولا نتخيل الحياة بدونهم.

ستمر هذه الأيام ثقيلة، كما هي الثواني في حياة المعلقين على أجهزة التنفس، وسنكتب صفحة جديدة في كتاب آلامنا الوطنية.. صفحة لم يسبق أن دونها أحد غيرنا، سنقول:

ــ في تلك السنة المريرة، وفي الشهر السادس منها، متنا مرة أخرى.. خسرنا معركة قاسية مع الهواء.