الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

عُزلة القراءة

خُلوة القارئ بنفسه مع كتبه أو عُزلته معها قد تكون من أكثر اللحظات سعادةً ودفئاً، إذ بإمكان القارئ أن يتخيلها حين يختلي بكتابه الذي يصعد به الجبال الشامخات، ويجوب به الصحاري الموحشات وهو جالسٌ على كرسيه في غرفته، وكثيراً ما يتغنى بمثلها العلماء والأدباء، حيث تُبعدهم عن جميع ما يُنغّص عليهم صفو تفكيرهم.

فائدة هذه العزلة لا يعرف قيمتها ويدرك كنهها إلا من دخل عالم القراءة، وأصبح حبيس جدرانه، فالمعرفة عزيزة نفس وتضع شروطها الخاصة في سبيل الظفر بها والاستحواذ عليها، ومن هذه الشروط الخلوة بها والاستئثار بثمين أوقات القارئ، وإبعاده عن أقرب الناس إليه.

ابتعاد القارئ وخلوته بنفسه لا شك في فوائدها الجمَّة.. يبقى الخوف من أن الإكثار منها والاعتياد عليها قد يوجدان نوعاً من الوحشة والجفوة بينه وبين الناس، إذ قد يُخيّل للقارئ بعد فترة من الانعزال عن الناس بأنه أصبح لديه من المعرفة ما يُغنيه عن إضاعة وقته مع من هو دونه ثقافة ومعرفة، ويعيش حالة من التسامي الموهوم بعدم حاجته لغيره، وفي سياق الانعزال والاستغناء عن الناس يقول ابن الرومي:


سالكاً في كل فجّ وحدهُ


حين لا يوحشهُ طولُ انفرادِ

وكذاكَ البدرُ يسري في الدُّجى

ولهُ من نفسه نورٌ وهادي

ومع اعترافي بجمال أبيات ابن الرومي، إلا أنني أبقى متحفظاً على قدرة الإنسان في العيش منعزلاً عن محيطه طيلة حياته، ولن يفعل ذلك إلا غروراً وتوهماً منه بأنه وصل إلى مرحلة من الاكتفاء المعرفي يُغنيه عن الناس، لذلك تبقى القدرة على الجمع بين العزلة ومُخالطة الناس هي السبيل الأمثل.