الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

الجريمة المقدسة.. ووضعية اللافكر

كثيراً ما يتم تشبيه بعض الجرائم المقدسة ضد الكُتاب والمثقفين التنويريين، بما كانت ترتكبه محاكم التفتيش في القرون الوسطى، ولا أعتقد أن الأمر يستقيم بشكل عادل.

محاكم التفتيش، على قسوتها، كانت في النهاية محاكم دولة، حتى ولو صورية، الشخص المحكوم عليه بالإعدام كان يعرف قاتله والتهمة. اغتيالات التطرف الديني اليوم تمارس في وضح النهار، لكن بسرية مطلقة حيث تُقيّد في أغلب الأوقات ضد مجهول، بينما ما يحدث يسير وفق مخطط مسبق ينتهي بحرمان البلاد العربية من أمرين أساسيين، من مادتها الرمادية، أي من علمائها، ومن إمكانية بناء أي مشروع ثقافي ديمقراطي كفيل بأن يغير بنيات التفكير التقليدية، نحو بنيات أكثر حيوية ودينامية.

يكفي أن نرى بروفايل المغدورين لندرك أن الأمر لم يكن ثانويّاً أبداً، ولا خاضعاً للصدفة ولكنه جاء وفق نظام مُهيكل بأهداف آنية يقصد من ورائها التخويف، وأهداف استراتيجية ترمي إلى الحفاظ على العالم العربي على وضعه كما هو، في وضعية اللافكر، وهو ما يرضي المؤسسات السياسية والاقتصادية ذات الطابع الاستعماري.


آلة الموت المنظمة تختار بدقة وليست غبية، إحصاء بسيط لما قامت به الحركات «الإسلاموية» المتطرفة يُبين درجة الخراب والتصحّر الثقافي الذي خلفته وراءها.


بهذا المعنى، القاتل ليس أعمى لكن الأعمى هو من يظن أن كل ما يحدث هو وليد مزاج مرضي أو صدفة، هناك قصديَّة لتجهيل العالم العربي وضربه في الصميم بحيث يحرم من أي إمكانية للارتقاء المعرفي والحضاري، وأسهل جريمة أن تقتل مثقفاً لأنه بدون أي حماية أو وقاية، فهو الضحية المثالية.

يكفي أن نعود إلى السنوات الأخيرة التي حرمت البلاد العربية من الكثير من مثقفيها، الذين انخرطوا في الدفاع عن حق العربي في أن يكون له حق الوجود في عالم شديد الأنانية، وكأن قانون الحق العالمي في الدفاع عن المثقف، لا ينطبق على العربي لأنه لم يرقَ إلى المرتبة التي تؤهله لأن يكون محمياً، كم من القنابل الحارقة للغرب الاستعماري تنزل على الخرائط العربية وكأنها مُجرد ألعاب افتراضية، فتمزقها، تحت سماء مستباحة؟ لا صورة، لا ضحية حتى ولو كان الضحايا يعدون بالمئات والآلاف.

الضمير العالمي، الاستعماري تحديداً، مرتاح، يجد دائماً رمزه الإعلامي لتسويق إنسانيته، يؤتى بضحية من ضحايا الحرب، يطوفون بها الشاشات العالمية لدرجة أن يبدو القاتل ـ الغرب الاستعماري الجديد ـ خارج دائرة الاتهام، وقد يذهب بعيداً في لعبته فيمنح نوبل لأحد ضحايا «العسف العربي»، معلناً أنه منشغل بالمصائر البشرية، وننسى فجأة أن هذا العالم الجشع لم يتوانَ عن قتل الملايين في حربين عالميتين، بلا أدنى ضمير وكان وراء الهولوكوست البشع.

هل يمكن فصل اغتيال كثير من المثقفين والفنانين العرب عن كل هذا السديم العالمي المتلاطم الذي يطوق العرب اليوم؟ السؤال الكبير: لماذا يُغتال المثقف؟، هل أصبح الرأي المضاد للتطرف الديني خطيراً إلى هذا الحد؟ أليس اغتيال المثقف هو الاغتيال الرمزي للحرية نفسها؟