الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

المحاضر الموريتانية.. تراث إنساني

تحدثت في مقال سابق عن المحاضر (أو المحاظر) الموريتانية، وهي جامعات تقليدية تُخرِّج العلماء الكبار في مجالات اللغة والفقه والقرآن والحديث وعلم الأصول والسيرة وغيرها، والغريب أنها ازدهرت في البوادي، مُشِّكلةً استثناء لنظرية «ابن خلدون» التي تقول: «إن العلم صناعة حضريَّة لا شأن للبادية فيها»، فهي ابتكار موريتاني فريد من نوعه لتدريس العلم والمعرفة بأعلى المعايير والمستويات في ظروف بدوية صعبة وأوضاع اقتصادية ومناخية قاسية، وتُمكِّن المحظرة طلابها من حفظ المتون الكثيرة وفهمها واستيعابها، مما لا يوجد له نظير في الجامعات والمعاهد الحديثة.

وبفضل المحظرة حافظت موريتانيا على هويتها الحضارية، واستطاعت نشر الإسلام وثقافتة واللغة العربية في إفريقيا السمراء، وبفضلها استطاعت موريتانيا أن تقاوم الاستعمار الثقافي الفرنسي؛ فكانت هذه المؤسسات التعليمية خطَّ الدفاع الأول، لذلك كتب الإداري الفرنسي كَبُّلاني حين أراد التغلغل في موريتانيا والهيمنة عليها، لربط المستعمرات الفرنسية في جنوب القارة الإفريقية بشمالها ـ كتب إلى وزير المستعمرات الفرنسي سنة 1902 يقول له، وهو يُحَدِّثه عن صعوبة اختراق المجتمع الموريتاني ويوضح له الخصوصية الثقافية لهذا المجتمع: «وجدنا شعباً له ماض من الأمجاد والفتوح لم يغب عن ذاكرته بعد ومؤسسات اجتماعية لا نستطيع أن نتجاهلها.. ومن العجيب أننا وجدنا لدى الزوايا ثقافة رفيعة أكثر تطوراً من الثقافة التي لاحظناها لدى مثقفي إفريقيا الشمالية، إن نفوذ بعضهم يمتد من غامبيا الإنجليزية إلى مناطق الغرب الأقصى».

ولأهمية هذا النظام التعليمي التقليدي، أنشأت موريتانيا عام 2019، بدعم دولة الإمارات الشقيقة مؤسسة جامعية أُطلِق عليها «المحظرة الشنقيطية الكبرى» في مدينة أجوجت (بولاية إنشيري)، واستقبلت هذه المؤسسة الدفعة الأولى من طلابها في أكتوبر 2019، وهناك توجُّه الآن لنقل هذه الجامعة إلى نواكشوط بطلب من دولة الإمارات العربية المتحدة، وتسعى هذه المؤسسة لتأطير المناهج الدراسية المحظرية وتطويرها وتحديثها ليتمكن خريجوها من ارتياد سوق العمل.


لذلك أُهيب بمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) إدراج هذه المؤسسة الموريتانية العريقة ضمن التراث الإنساني المحمي، لما تتميز به من خصائص فذة وغايات فريدة مكَّنت السكان في هذه المنطقة من صيانة هويتهم والحفاظ على ثقافتهم ولغتهم العربية في ظروف اقتصادية صعبة، وأوضاع مناخية بالغة القسوة.