الخميس - 25 أبريل 2024
الخميس - 25 أبريل 2024

ملكة جمال المجانين

في رائعتها «السيدة دالاوي» تفتح «فيرجينيا وولف» واحداً من أعقد الجروح الاجتماعية المزمنة، عبر تعقب سيكولوجية شخصيتين متضادتين في الرواية، هما السيدة كلاريسا الأرستقراطية الطيبة، والآنسة كليمان معلمة مادة التاريخ لابنتها الوحيدة.

من الخارج تبدو كلاريسيا منسجمة مع ذاتها.. امرأة في الـ50 من عمرها؛ فارهة الطول وأنيقة المظهر، تحقق حضورها الاجتماعي في تنظيم حفلات منزلية ناجحة، لكننا ما أن نلج عالمها الداخلي حتى نصطدم بذاتها المتفكرة والمتأملة البعيدة عن التفاهة وهي تنكشف على عالم الوجع الإنساني، بالمقابل تظهر الآنسة كيلمان وهي تفتقر إلى أي نوع من الجمال وغير مهندمة، لكنها تتمتع بمعرفة واسعة بالتاريخ الحديث مصحوباً بشيء من التعالي المعرفي على نظيراتها.

في مشهد المواجهة بينهما؛ تفكر كيلمان مع نفسها في كراهيتها غير المفهومة لكلاريسيا، إذْ تعدها ساذجة ولا تعرف معنى الحزن، لأنها لم تعش ذات المعاناة، فبالتالي هي هزيلة الروح لا تحارب من أجل القضايا المهمة، أو ربما هي لا تؤمن بأي قضية!

تشعر كيلمان برغبة عارمة في إسقاط كلاريسيا من عليائها ومحق روحها وغطرستها كي تشعر بسيادتها.. تتمنى لو بإمكانها تدميرها وإركاعها باكية. بالمقابل، تقول كلاريسيا لنفسها، وهي ترصد نظرات كليمان: إن هذه المرأة أقسى ما في الدنيا، فهي مغالية ومتسلطة ومنافقة وغيورة ومسترقة للسمع، قاسية وغير متحرجة حتى أَقصى حد.

في محاولة لرصد هذه المنولوجات المتضادة، يمكننا رصد سوء التفاهم الأبدي في صراع التنشئة الاجتماعية، ومحاولة إخضاع شعارات الإنسانية، وفكرة الاصطفاء، وقيم الحق، من أجل تبرير تشنجات نفسية شخصية، إلا أن الملهم في الأمر، هو أن هاتين الشخصيتين موجودتان في تركيبة فيرجينيا وولف ذاتها؛ هذا التضاد الحاد بين الرفاهية والبؤس والقيمة المعرفية والشعور بالإقصاء الاجتماعي والحقد والمغالاة ودغدغة الطبيعة للمشاعر، والترفع والغضب.. كلها أدت بالمؤلفة التي عانت من آلامها النفسية الطويلة إلى دخول إحدى المصحات النفسية، حيث تم انتخابها فيها «ملكة جمال المجانين» عام 1921 قبل انتحارها المأساوي عام 1941.

هذا بالضبط ما يفسر عالمنا المجنون، الذي يعاني في جسده التاريخي من كدمات الصراعات، التي لا يمكن لقانون أو حركة تنقيتها من داخل النفس البشرية.. عالمنا الذي نعيشه ونمارسه «كأجمل العوالم الممكنة».