الجمعة - 19 أبريل 2024
الجمعة - 19 أبريل 2024

هدوء الكتابة.. وضجيج الكاتب

تعودت خلال الأعوام الماضية أن أكون في مواجهة مع بعض الأدباء الذين يحظون بشهرة على مستوى العالم، وذلك من خلال المهرجانات الأدبية التي أحضرها بالعادة.. أعتقد أنني سيئة جداً في ما يسمى بالعلاقات العامة بين الأوساط الثقافية، وقد بدا لي أنني أعاني نوعاً من الرهاب الاجتماعي، إذْ أنسى تماماً التقاط الصور مع الكتّاب الذين أعجب بأعمالهم، وأهرب من التجمعات.

في أحد الأيام وجدت نفسي على طاولة واحدة مع واحدٍ من الكتّاب المشهورين.. كان مؤثراً بطريقة سينمائية، وكأنه ينتزع الحياة من حوله ويعيدها عبر صوته، يتحدث في كل شيء تقريباً دون تلكؤ وبصوت جهوري ترافقه ابتسامة عظيمة.. همس إليه المصور الإسباني فرد عليه بالإسبانية بطلاقة، ووجه له المذيع الفرنسي سؤالاً، فأجابه بفرنسية مدهشة.

ثم وجه نظره نحوي فجأة، وأطلق مجاملة ساذجة، شعرت بوخزة في رأسي، وانزعجت من رغبته الواضحة في إثارة الإعجاب.. راقبته وهو يحاول أن يحدث جلجلة هوليوودية فيسقط مثل كونكريت على رأس الجميع.. شعرت بالإنهاك الشديد من وجوده.

وعندما كان يشع هو مثل كتلة من نار كنت أنكمش أنا على نفسي وأذوي، يجلجل صوته في الفضاء، فيتقطع صوتي في حنجرتي. سألت نفسي: كيف يمكن لمن ينشغل بالكتابة أن يصبح لامعاً على هذا النحو؟

‏كان مشهداً رثاً، فرغم شهرته الواسعة، تراءى لي بأنه بطل من ورق، كاريزما مفتعلة وقدرة استعراضية تسهم في خفوت وهج الكتابة. المبدع لا يحتاج إلى اصطناع شخصيته حتى يؤثر بمن حوله، إنه يضطرم من الداخل ويتضعضع مثل لعبة خشبية.

تذكرت الشاعر ريلكة الذي وصفه ستيفان زفايغ بأنه بالغ الرهافة، وكأن الصمت ينمو من حوله حيثما ذهب، يتجنب الضجيج، ويتجنب حتى شهرته، تجد في مظهره غير المؤثر على وجه الدقة أعمق أسرار وجوده، وكان قليلاً ما يبدأ هو بالكلام بلا تكلف ولا جهارة، ومن رقته البالغة تنسل القصائد الخالدة.

تمنيت لو أني جلست مع كاتب مثل ريلكة في ذلك المساء، أستمع إليه وهو يلوذ بعينيه اللتين تشبهان غزالة مطارَدة دون أن يلتفت إليّ هو، ودون أن يلتفت إلينا أحد.