من يسرق كتاباً.. يُصَب بعَدواه

أكاديمي وروائي مقيم بفرنسا، عمل في جامعة الجزائر المركزية، قبل أن يلتحق في 1994 بجامعة السوربون في باريس. يسهم بتحليلاته الثقافية والسياسية في صحف عربية كثيرة، حصل على جوائز مرموقة منها جائزة الشيخ زايد للآداب.
الحادثة وقعت في جامع قريتي الصغير، الذي أعدتُ ترميمه من مالي الخاص قبل سنوات حتى لا يموت.. تعلمت فيه العربية لأول مرة في حياتي وعمري أقل من 6 سنوات، وكنت أدرس الفرنسية في المدرسة البلدية المختلطة، التي كان يدرسنا فيها فرنسيون.. ماكس، جاكار، جيرار، سالموني، كازيي، وغيرهم.
أتذكرهم واحداً واحداً، كان معلمي في الجامع هو سيدي سعيد المغربي، الذي علمني كتابة العربية في عز البرد الشتوي والألبسة الممزقة وشعلة النار التي نوقدها ناحية الحائط الخلفي للمسجد الصغير، نتدفأ عليها ونسخّن عليها ألواحنا المغسولة بالصلصال حتى تصبح بيضاء، لنكتب عليها من جديد.
إلى يوم تعلمت القراءة والكتابة، فوضعني سيدي سعيد في آخر الصفوف مع العارفين، يعني الذين يهجُّون الحروف، وبدأت أقرأ القرآن الكريم في المصحف بعد الوضوء، إلى يوم أن صادفت بالخطأ في الكوة الصغيرة كتاباً، بنفس غلاف القرآن الكريم، كرتونيّاً ولونه أحمر، وجدت متعة كبيرة في قراءته، لدرجة أني سرقته، لأكتشف بعد شهور من القراءة الجادة والالتصاق به، أنه لم يكن قرآناً، ولكن كتاب ألف ليلة، جدتي حنّا فاطنة كلّما رأتني أقرؤه انتشت، كانت تريدني عربياً يستعيد أمجاد أجداده الأندلسيين.
من وضعه ضمن نسخ القرآن الكريم العشرة؟ من خبّأه؟ من كان يقرأه سرّاً؟ خادمة الجامع الغامضة التي كنا عندما ندخل فجراً إلى الجامع، نجدها متّكئة بظهرها على الحائط وتقرأ القرآن؟ عندما ترانا، تضع الكتاب في الكوة وتخرج منكسة الرأس، بعض النور كان يشع من ملامحها الغامضة، وهي تقول صباح الخير بصوت ناعم، وتمضي كالظل، في مرة من المرات رأيتها في الحلم، كانت هي بشعرها يغطي وجهها، سألتني عن الكتاب كانت غاضبة مني:
لماذا سرقته.
قلت: سرقته حبّاً فيه.. أقنعت نفسي أنه كتابي.
تأملتني قليلاً، ثم قالت:
- اسمع يا لزعر الحمصي (الأشقر بلون الحمص) هل تقبل بي شريكة؟
قلت: كيف؟
قالت: كلما فتحتَ الكتاب، دعني أقرأْه معك، أجلس وراءك، ولا تلتفت نحوي إلا عندما تنتهي من الليالي.
قلت: أقبل، قلتها بلا تفكير.
يوم انتهيت من قراءة الليالي، التفت، لم تكن هناك، من تكون تلك المرأة؟ من أتى بها إلى ذلك المكان؟ كل الذين سألتهم وقتها من أصدقائي، قالوا: لا نعرف.. عمارة الدار، قالت جدتي: لا يراها أحد غيرك. منذ 60 سنة، وأنا أبحث عنها لأني متأكد من أنها هي من وضع الكتاب هناك.
أنا مدين لها بكل ما حدث لي لاحقاً، ألم يقل لي جدي الأندلسي يوماً: من يسرق كتاباً، سيُصَاب بعدواه. تمنيت أن أراها لأعتذر منها، فقد سرقت كتابها من مسجد صغير، في قرية غير محسوبة إلا على الخرائط الاستعمارية العسكرية، طوحت بي في سماء ملونة اسمها الأدب، شكراً لك أينما كنتِ يا سيدتي.. وهماً كنتِ أم حقيقة، فقد ملأتِ قلبي بكتابك، وأخرجتني من ظلمة اليقين.
أتذكرهم واحداً واحداً، كان معلمي في الجامع هو سيدي سعيد المغربي، الذي علمني كتابة العربية في عز البرد الشتوي والألبسة الممزقة وشعلة النار التي نوقدها ناحية الحائط الخلفي للمسجد الصغير، نتدفأ عليها ونسخّن عليها ألواحنا المغسولة بالصلصال حتى تصبح بيضاء، لنكتب عليها من جديد.
إلى يوم تعلمت القراءة والكتابة، فوضعني سيدي سعيد في آخر الصفوف مع العارفين، يعني الذين يهجُّون الحروف، وبدأت أقرأ القرآن الكريم في المصحف بعد الوضوء، إلى يوم أن صادفت بالخطأ في الكوة الصغيرة كتاباً، بنفس غلاف القرآن الكريم، كرتونيّاً ولونه أحمر، وجدت متعة كبيرة في قراءته، لدرجة أني سرقته، لأكتشف بعد شهور من القراءة الجادة والالتصاق به، أنه لم يكن قرآناً، ولكن كتاب ألف ليلة، جدتي حنّا فاطنة كلّما رأتني أقرؤه انتشت، كانت تريدني عربياً يستعيد أمجاد أجداده الأندلسيين.
د. شهد الراوي
منذ يومين
من وضعه ضمن نسخ القرآن الكريم العشرة؟ من خبّأه؟ من كان يقرأه سرّاً؟ خادمة الجامع الغامضة التي كنا عندما ندخل فجراً إلى الجامع، نجدها متّكئة بظهرها على الحائط وتقرأ القرآن؟ عندما ترانا، تضع الكتاب في الكوة وتخرج منكسة الرأس، بعض النور كان يشع من ملامحها الغامضة، وهي تقول صباح الخير بصوت ناعم، وتمضي كالظل، في مرة من المرات رأيتها في الحلم، كانت هي بشعرها يغطي وجهها، سألتني عن الكتاب كانت غاضبة مني:
لماذا سرقته.
قلت: سرقته حبّاً فيه.. أقنعت نفسي أنه كتابي.
تأملتني قليلاً، ثم قالت:
- اسمع يا لزعر الحمصي (الأشقر بلون الحمص) هل تقبل بي شريكة؟
قلت: كيف؟
قالت: كلما فتحتَ الكتاب، دعني أقرأْه معك، أجلس وراءك، ولا تلتفت نحوي إلا عندما تنتهي من الليالي.
قلت: أقبل، قلتها بلا تفكير.
يوم انتهيت من قراءة الليالي، التفت، لم تكن هناك، من تكون تلك المرأة؟ من أتى بها إلى ذلك المكان؟ كل الذين سألتهم وقتها من أصدقائي، قالوا: لا نعرف.. عمارة الدار، قالت جدتي: لا يراها أحد غيرك. منذ 60 سنة، وأنا أبحث عنها لأني متأكد من أنها هي من وضع الكتاب هناك.
أنا مدين لها بكل ما حدث لي لاحقاً، ألم يقل لي جدي الأندلسي يوماً: من يسرق كتاباً، سيُصَاب بعدواه. تمنيت أن أراها لأعتذر منها، فقد سرقت كتابها من مسجد صغير، في قرية غير محسوبة إلا على الخرائط الاستعمارية العسكرية، طوحت بي في سماء ملونة اسمها الأدب، شكراً لك أينما كنتِ يا سيدتي.. وهماً كنتِ أم حقيقة، فقد ملأتِ قلبي بكتابك، وأخرجتني من ظلمة اليقين.
الأخبار ذات الصلة
د. شهد الراوي
9 يناير 2021
د. شهد الراوي
2 يناير 2021
د. شهد الراوي
26 ديسمبر 2020
د. شهد الراوي
19 ديسمبر 2020
د.عماد الدين حسين
16 ديسمبر 2020
د. حميد الكفائي
15 ديسمبر 2020
د. واسيني الاعرج
14 ديسمبر 2020
د. انتصار البناء
13 ديسمبر 2020
د. مجيب الرحمن
13 ديسمبر 2020
سارة المرزوقي
12 ديسمبر 2020
خلود الفلاح
12 ديسمبر 2020
سعيد الملاحي
12 ديسمبر 2020
د. شهد الراوي
12 ديسمبر 2020
لبنى الهاشمي
9 ديسمبر 2020
ميسون أبوبكر
8 ديسمبر 2020
باسمة أبو شعبان
7 ديسمبر 2020