الخميس - 28 مارس 2024
الخميس - 28 مارس 2024

أوراق رسمية لـ«كونديرا»

بعد 40 سنة على مغادرته مدينته براغ، طرق السفير التشيكي باب شقته في باريس، ليسلمه شهادة جنسيته التي جرد منها عام 1979، قائلاً له:

«السيد كونديرا، باسم رئيس الوزراء وباسم الشعب التشيكي، أتقدم بالاعتذار عما لحق بكم من ظلم، وهذه جنسيتك تعود إليك بكل احترام».

نظر كونديرا في وجه السفير بعيني رجل تسعيني، تشعان بالعبقرية، وقال: شكراً.. ثم أغلق الباب بهدوء.

حين نقرأ روايته «الجهل» سنعرف سبب هذه اللامبالاة التي قابل بها كونديرا سفير بلاده، ولم يكلف نفسه حتى في إلقاء نظرة على أهم وثيقة رسمية تؤكد مواطنته.

يركز كونديرا في هذه الرواية على فكرة الجاليات المهاجرة، وكيفية إعادتها رواية القصص ذاتها حتى الغثيان، ثم تصبح على هذا النحو قصصاً لا تنسى، أما أولئك الذين لا يترددون على مواطنيهم، فحنينهم يشتد حتى يفرغ من الذكريات، لأن الحنين لا يقوي نشاط الذاكرة، ولا يورد الذكريات، إنه يكتفي بنفسه، بعاطفته الخاصة.

إن يوليسيس في ملحمته كان يعيش على أمل العودة، ولكنه حين عاد إلى مسقط رأسه «ايثاكا» أدرك مصدوماً أن جوهر حياته، مركزها موجود خارج مدينته، موجود في فكرة العودة لا العودة نفسها.

كان كونديرا ومنذ عقود، يعد أهم كاتب في اللغة التشيكية، كان تشيكياً أكثر من التشيك نفسها التي يصر على تسميتها بوهيميا،

فقد تجعل منه الأوراق الرسمية مواطناً ولكنها لا تجعله أكثر وطنية، فالأولى وثائق حكومية، والثانية مشاعر عميقة لا يمكن تعريفها ضمن أطر واضحة.. المواطنة قيد لكن الوطنية حرية.

عاد أبطال رواية الجهل إلى براغ، ولم يجدوا براغ فيها.. «كم هو متعب الوفاء الذي لا يكون نبعه من العاطفة الحقيقية»، ومدينتي؟ براغ لم تعد مدينتي!.. تقول البطلة إيرينا، وهي تراقب التغييرات التي طرأت على المكان الذي ولدت فيه.

في روايتي المقبلة، بطلتي تعاني الالتباس نفسه بين مسقط رأسها ومدينتها، بين ذاكرتها المشوشة والواقع الأكثر تشوشاً، فهي لم تفقد أوراقها الرسمية كمواطنة عراقية، لكنها فقدت ما هو أعمق من ذلك.. لقد فقدت القدرة على رواية قصتها حتى الغثيان.

  • في روايتي المقبلة.. بطلتي العراقية لم تفقد أوراقها الرسمية لكنها فقدت القدرة على رواية قصتها