الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

الأدب.. وضجيج السياسة

كتب الروائي الألماني «هيرمان هسة» لزميله توماس مان، قائلاً: «كنتُ ـ وما زلتُ ـ عند رأيي السابق: ينبغي ألا تصطبغ الحياة ولا البشر بصبغةٍ سياسية، وسوف أدافع عن موقفي بعدم الانخراط في السياسة حتى الرمق الأخير.. يجب أن يكون هناك بشر عُزَّل لا يملكون سلاحاً غير أقلامهم، يموتون دون ذلك، وأنا مِن هؤلاء البشر».

هيرمان هسة وتوماس مان، يمثلان علامتين كبيرتين في الأدب العالمي، وكلاهما حائز جائزة نوبل للآداب، وتصادف صعود نجميهما مع صعود خطر النازية.. فكيف يجب على كاتب عظيم مثل هيرمان هسة أن يعتزل الحياة العامة، وينكب على إبداعه بعيداً عن وطنه الأم؟!

من خلال قراءة رسالته بقليل من التعمق، نكتشف أن هيرمان هسة لا يحب أن تصطبغ الحياة كلها بالسياسة، لأن المبدع لديه دور خاص في مناهضة قبح العالم، ورفض البشاعة، واحتقار الظلم.. يعبر عن ذلك من خلال أدبه، وليس من خلال مواقف صحفية كما يعتقد مؤلف «دميان»، وهو على حق، أما صديقه ومواطنه صاحب «الجبل السحري» فهو على حق أيضاً، لأنه لم يستطع الهروب إلى العمل على رواياته الطويلة بينما يحترق العالم من حوله.. فكيف يكون هذان الموقفان المتناقضان كلاهما على حق؟!

من وجهة نظري، أن توماس مان يكتب في السياسة كمواطن ألماني، وليس كروائي، وأن هيرمان هسة كمواطن ألماني أيضاً، ليس مهتماً بالسياسة، ويرى أن دوره في هذه الحياة القصيرة، هو: إنتاج أعمال أدبية تمتلك قيمة جمالية.. فالجمال بطبيعته يفضح قبح العالم وما أكثر ذلك القبح الذي تصنعه السياسة!

لقد غضب توماس من صديقه، لكن الاحترام المتبادل بقي يطبع مخاطباتهما التي دامت عقوداً طويلة منذ تعارفهما عام 1904 وتخللتها فترة جفاء، كما تردد في ترجمة أحمد الزياتي لبعض هذه المخاطبات.

ذهبت النازية، وانتهت الحرب العالمية الثانية، وتغير التاريخ، ودخل المسرح سياسيون وخرج منه آخرون، ونحن نقرأ روايات توماس مان وهيرمان هسة بعيداً عن ضجيج السياسة، فما يتبقى من الكاتب أخيراً هو إبداعه الفني.. في أغلب الأحيان السياسة تفسد الهواء من حولنا، ويأتي الأدب ليجعل هذه الحياة جميلة.