الخميس - 18 أبريل 2024
الخميس - 18 أبريل 2024

الرسالة المفقودة

قيل لنا، فجأة، إن الإدارة ستقوم بحملة لتفتيش حقائب الطالبات، وفي الحقائب كنا نخبئ الممنوعات البريئة، بعضاً من أصباغ الأظافر، وربما شيئاً من تلك العلب الدائرية التي تورّد الخدود، والخطر الأكبر هو أسطوانات المطربين الشباب.

كُنّا في الثانوية، وكان الحب يتقدم نحونا خجولاً مرتبكاً، وفي أغلب الأحيان، يأتي على شكل رسالة مكتوبة بقلم الجاف الذي أدمن الأخطاء الإملائية، وفي حقيبة «نور» كانت الرسالة الأولى التي لم تفتحها بعد، وتحوَّلت من ورقة عطَّرتْها المشاعر البريئة إلى مشكلة تهدِّدُ وجودها في المدرسة.

تناولَتْها بيدٍ مرتجفة ووضَعَتْها في يد صديقتها التي تجلس إلى جانبها لتمر إلى زميلة أخرى، وبسرعة البرق، وصلت الورقة بين يدي لألقيها من شباك المدرسة في فناء الكنيسة المجاورة، ليأخذها الهواء بعيداً.. تنفَّسْنا الصعداء كما يقولون، وتبادلنا ابتسامات النصر الخاطفة.

كانت مدرستنا التي تدور فيها بعض أحداث روايتي الجديدة من أجمل المدارس في بغداد، وأكثرها عراقة، فهي بناية دينية مسيحية شيدت من ذلك الطابوق البغدادي الممزوج بطين دجلة.. يتوسّطها صليب أبيض يعرفه كل من مر على جسر الجمهورية المعروف في العاصمة.. تاهت الرسالة بين ممرات الكنيسة، وضاعت كلماتها إلى الأبد، ومرت ساعة التفتيش تلك بأمان.

قبل أيام، وبعد أن أعلنت عن صدور روايتي، التي أهديتها في الصفحة الأولى إلى طالبات ثانوية العقيدة وراهبات التقدمة، كتبت لي «نور» التي انقطعت أخبارها عني منذ 15 سنة، لتبدي سعادتها على الإهداء، وتذكرني برسالتها الأولى في حياتها، والتي هرَّبها الهواء ربما نحو جهة النهر، أو ربما علقت بين شقوق الجدران المُعتمة.

تذكرنا مدرستنا بفيض من الشوق، وعدنا إلى ذكريات كانت إلى وقت قريب في متناول اليد، ولكنها مع نهاية كل عام من أعمارنا تبتعد أكثر وأكثر حتى أصبحت الكتابة بديلاً عن الماضي، وحتى صارت الرواية تكتب تاريخ الناس المنسيين على حافة الأحداث.

التاريخ يهتم بغزو نابليون لأوروبا ومغامرات هتلر واحتلال بغداد، لكنه يترك للرواية رسالة «نور» وآلاف الرسائل الخجولة التي لم تقرأ أبداً.. منذ أن تعلم الإنسان الكتابة صار كثير النسيان، واستبدل الذاكرة بكتابة الروايات.