الجمعة - 19 أبريل 2024
الجمعة - 19 أبريل 2024

فقدان العلاقة بالطبيعة

من خلال مراقبته الميدانية للمجتمعات «البدائية» يرى مؤسس الأنثربولوجيا الحديثة «ليفي شترواس»: أن العناية التي يُولِيها «الهنود الحمر» لدراسة الطبيعة لا يوازيها سوى عمل علماء النبات، فهم يبذلون قصارى جهدهم لفهم بيئتهم بأدق تفاصيلها، من خلال تصنيف أبسط النباتات والأزهار والأعشاب وتسميتها ومعرفتها.

كما يذهب إلى أن هؤلاء الناس، يعثرون على ثقافتهم عبر اهتمامهم بالطيور وأنواعها، وبذلك فهم ينتمون إلى دورة الطبيعة التي نتوهَّم نحن أنها موجودة من أجلنا فقط.

الإنسان الحديث، الذي ينتمي إليه شترواس نفسه، لم يعد إنسان الطبيعة الحرة، واكتفى بجزء مصطنع منها تمثله الحديقة المنزلية.

في بغداد مثلا، تُعد الحديقة جزءاً مهمّاً من خريطة البيت، وهي الفضاء الصناعي للطبيعة، الذي يوهِمنا بعلاقتنا القديمة مع البيئة، ولهذا الوهم لذّته وضرورته، فنحن في الأقل نعرف أسماء الأشجار، ونميّز أوراقها، ونستطعم ثمارها، ونراقب نموها بشكل عرضي، كما إننا نقيم تلك العلاقة الودودة مع أنواع الورود المحلية والوافدة، مثل: الجوري والرازقي والقرنفل والشبوي، ونتبادلها تعبيراً عن الحب والصداقة، وبقيت عطورها جزءاً من صباحاتنا الباكرة.

وفي هذه الحدائق، نستقبل زقزقة العصافير المشاكسة، ورفيف أجنحة الفراشات، وأزيز الحشرات الليلية، ونستمع خلسة لصوت العشب وهو ينمو فنسارع إلى قمعه، وإعادته إلى الترتيب الذي يروق لنا.. فنحن نعرف حدائقنا، ونتجاهل البيئة الأكبر التي نعيش بداخلها، معزولين وراء نوافذ بيوتنا.

لقد رصد الجندي الأمريكي جاناثن ترند 122 نوعاً من الطيور المحلية والمهاجرة في العراق، التي شاهدها خلال وجوده مع الجيش الأمريكي المحتل، ودوّن مشاهداته في دفتر يوميات احتوى على رسوم توضيحية لأشكال هذه الطيور، وأماكن تواجدها من صحراء البلد وسهوله وأهواره، وحتى تلك التي اختارت العيش في المدن.

من وجهة نظر هذه الطيور، فإن بلاد ما بين النهرين، هي وطنها الأول، وأحياناً الثاني، حيث تقصده في فصول بعينها، وتقطع من أجل الوصول إليه آلاف الأميال.

الطبيعة العراقية متنوعة بجغرافيتها وبيئتها الطبيعية، منوعة بأشجارها وورودها وأعشابها وطيورها وثروتها الحيوانية، فمن أعلى قمم جبالها إلى منخفضات أهوارها، تتنوع الحياة في أجمل سمفونية للوجود، لكننا، وللأسف، لم نستمع إليها جيداً.. هل فقدنا إحساسنا بالطبيعة؟ ربما!