الخميس - 25 أبريل 2024
الخميس - 25 أبريل 2024

تمثال «أليف شافاق»

قبل أيام شاهدت فيديو للكاتبة التركية «أليف شافاق» تتحدث فيه عن التذكارات الشخصية، التي تضطرك الهجرات المتتالية إلى التخلِّي عنها، والأشياء التي فقدتها جراء تنقلها الدائم منذ الطفولة بين البلدان.. أمسكت بتمثال من الخشب لدون كيخوته وقالت إنها الهدية التي تلقتها في مراهقتها، وظلَّت ملازمة لها في كل أسفارها.

عجبت لهذه العلاقة المبكرة، وهالتني فكرة انغراس الأدب في التاريخ الروحي للإنسان الذي يكتب.. تذكرت بداياتي بشيء من الخجل.

في مراهقتي لم أكن أعرف بعد من هو «سرفانتس»؟ لقد تعرفت إليه قبل 5 سنوات فقط، وكنت في مراهقتي بالكاد أعرف شيئاً يسيراً عن نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس.. كنتُ مولعة بالكتب، لكني لا أعرف ماذا أقرأ؟ ومن أين أبدأ؟ أقف على أطراف أصابعي، وأمد ذراعي على طولها كي أسحب كتاباً من مكتبتنا.

وجدت مرة «شبح ستالين» وهو كتاب سياسي، كان أول كتاب قرأته في حياتي، وبالطبع لم أفهم منه شيئاً، لكن دمعة ما أرغمتني على تكملة هذه القراءة العمياء، انتهيت من الصفحة الأخيرة، وأغمضت عيني.. تخيلت أن ستالين شاب قُتل في الحرب العالمية الثانية بحادثة اعتباطية، ثم خرج شبحه يبحث في شوارع براغ عن الجنود الذين هم في عمره كي يطرح عليهم سؤالاً واحداً: ما إذا كانوا يتذكرون الساعة السادسة صباحاً من اليوم الفائت، وهي لحظة وفاته؟ فيبدأ كل جندي بقص سيرة يوم واحد فقط من الليلة الفائتة، ثم تتشابك الأحداث.

لا أتذكر النهاية التي وضعتها في مخيلتي، لكنها وعلى أي حال كانت النقيض الشعوري لخيبة الأمل التي أورثني إياها هذا الكتاب.

انتقلت إلى مكتبة جارتنا، التي كانت تحتفظ بروايات نصف ممزقة، لم أقرأ فيها رواية كاملة طيلة السنوات الأولى من مراهقتي.. تعودت أن أنسج في رأسي النهايات الممحوة، وأعيد ترتيب الأحداث المبتورة من الصفحات.

في السنوات الأخيرة، أدركت كم فاتني من الوقت لأتعرف على الأدب بكل تنوعاته ومدارسه، وساعدتني القراءة الجادة في ردم الكثير من الفجوات الفنية في القراءة المنتجة، ولكني لا أزال أشعر بشيء من الغبطة لمن تربَّى على قراءة الأدب كما يجب أن تكون منذ الطفولة.

هذا التواتر الهائل من تراكم التجربة، يحرك شرارة المثابرة في داخلي، وما أعانني على المواساة هي بعض التجارب القرائية التي بدأت بالنضوج في سن متأخر عند بعض الكُتاب المُهمين، مثل: «أندي ميلر» وتجربته في سنة القراءة الخطرة.

كما أن خيالي المتعطش للحكايات راكم عندي تجربة نادرة أيضاً.. تجربة التوهم بالقراءة وما تحمله من سحرية عظيمة في تشكيل التجربة الإبداعية، ويبقى الخيال، هو الهامش الوحيد الذي ينقذنا من الغرق في محيط الواقع المؤلم، والأدب هو محض قدر لا يمكن الفرار منه، وإن اختلفت الحكاية.