الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

حماسة الإنسان الجامع

هل استنفدت كل طاقتي من الغضب؟! لماذا لم يعد هناك شيء ينفعل في قلبي حين تتضارب الآراء حول موضوع كنتُ فيما مضى أنحاز لأجله؟ هكذا أنا الآن أتمتع برفاهية الحياد.. أعيش بينَ رُكام الكتب والقصاصات، وأغيب في فوضى الأفكار التي هي بلا مشاعر مضطربة.

سألت نفسي: ما سر هذا الحياد العجيب الذي طرأ على حياتي، والنظرة الباردة نحو القضايا المشتعلة؟ وما سر انطفاء الحماسة القديمة؟ ولماذا لم تعد تلك القضايا الخلافية تستدرجني إلى فضاء (ضدها أو معها)؟

في رواية«ظل الريح» لكارلوس زافون يفتش البطل في زيارته الثانية لمقبرة الكتب المنسية عن مكانٍ يستطيع أن يخبئ فيه كتاباً مهماً، وبينما يجوس بين الكتب المتنوعة والثرية يسأل نفسه: كيفَ يمكن للإنسان أن يشاهد بأم عينيه كل هذا الإرث المعرفي دون أن يقرأه؟ ثم شعر بوخزة في رأسه وهو يقاوم فكرة عجزه عن استيعاب كل هذا الكم من المعرفة المسجونة بين الأغلفة.. هذا الشعور تحديداً يساور أي شخص يتورط في هوس القراءة، ويجد نفسه أمام مكتبة كبيرة، والشعور نفسه يدور في وجدان من يتمشَّى بين بيوت قديمة: ماذا لو عرفت قصة كل بيت؟ وما يحدث خلف كل نافذة مضاءة؟

هذا الفضول البشري الوحيد الذي يمنح للإنسان حاجة ملحة بأن يحمل صرة كبيرة من القماش، يجمع فيها قصص البيوتات التي تظهر في طريقه، وهو الشعور الوحيد الذي ظل مرافقاً لي حتى اللحظة، فبينما تغيب الحماسة في إبداء الرأي، تظهر حماسة من نوع آخر، نوع أكثر ندرة وأشد التماعاً، «حماسة الإنسان الجامع»، الذي يشتد فضوله نحو المعرفة والقصص على حدٍ سواء، ليعيد بناء ما هشمته الجدالات غير المجدية.

الفضول نحو قصص البيوتات النائية هي رغبة شبه طفولية، لكنها دعوة جدية للإنسانية التي لا يمكنها أن تتحقق دون التعاطف الذي تجلبه تفاصيل القصة التي نريد أن نعرفها، وهذا ما حققه فن الرواية.

كما أن الفضول نحو المعرفة يعني أنك تقترح لذاتك أفضل احتمالاتك، احتمال الخروج من دائرة الاشتباك اليومي بين فرقاء قضاياهم ليست واضحة، بين خصومات مزمنة.

الحياد لا يعني أنك بلا رأي، بل يعني أن رأيك هو خلاصتك الفريدة التي عليك حمايتها من التورط في الاشتباكات الصغيرة، التي تبعثر ما جمعته طيلة السنوات السابقة.