الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

الإتاحة المعرفية والشيخوخة المهنية

في سابق الأزمان، كان من يحرص على نقل المعرفة أو توثيقها يقطع لأجلها الأشواط والأميال، ويجتاز القفار والوديان، ويقضي ردهاً من الزمن حتى يصل لعلم اليقين.. ولتطبيق المنهجية السليمة في طلب العلم وتحصيله وتوثيقه، قد يحتاج العالِم إلى أيام وشهور وسنوات.

وفي عصر الإتاحة المعرفية اليوم، وبنقرة زر وإشاحة إصبع على الشاشة الذكية، تتحصّل على ما يفيض عن حاجتك من معلومات، فبحسب تقرير «Global digital 2019»، هنالك نحو 4.4 بليون مستخدم للإنترنت حول العالم ينفقون 6 ساعات ونصف الساعة من أوقاتهم يومياً على محركات البحث ومواقع التواصل، 3.5 بليون منهم يُصنَّفون كمستخدمين نشِطين لمواقع التواصل الاجتماعي، ناهيك عن أكثر من 2 بليون مستخدم لموقع Facebook عالمياً، و9 مليارات مستخدم لموقع YouTube شهرياً، و11 مستخدماً جديداً لمواقع التواصل كلّ ثانية، وباعتبار أن متوسط عمر الإنسان نحو 72 عاماً، وفقاً لمنظمة الصحة العالمية (WHO)، وعلى افتراض أنه بدأ باستخدام مواقع التواصل الاجتماعي بعمر 10 سنوات، فإنه بذلك سيقضي نحو 147 ألف ساعة من حياته على الإنترنت، أي ما يعادل 16 سنة و8 أشهر، منها 6 سنوات و8 أشهر على مواقع التواصل الاجتماعي فقط.

وبعد أن كان حضور المحافل العلمية والفعاليات المعرفية يتطلب حزم أمتعتنا وشدّ الرحال، أصبح بإمكاننا الاكتفاء بالمشاركة بها عبر التطبيقات الذكية، كازدياد الازدحام في الحركة اليومية المعرفية التشاركية على تطبيق ZOOM بنسبة 535% منذ بداية الجائحة وفقاً لشركة «Zoom Video Communication»، وبرغم ذلك تزداد حيرتك حين تجلس إلى أحدهم في اجتماع عن بُعد أو قرب لتستأنس باستشارته، فيأتيك التقادم قبل التقدم، وتستشعر أن صاحبنا متخاصم مع ذاته المهنية، وكأنّ لسان حاله يقول: «لكم عالمكم المعرفيّ، ولي قوقعتي المتقادمة».


وبالرغم من حجم الإتاحة المعرفية على مدار الساعة، فإننا نلمس القصور المعرفيّ، والتقاعس عن توثيق المعلومات، واكتساب المهارات، ولدى البدء بحوار مهني سرعان ما تتكشّف السطحية في المعلومات، والترهّل في المنظومة المعرفية.. عجيب أن نعيش سويّاً على كوكب واحد يشهد ثورات من التحوّل الرقمي والإتاحة المعرفية، وساعات البث المباشر، وعدداً غير محدود من المنشورات العلمية والإصدارات والدوريات على الإنترنت، وفي نهاية المطاف لا نلمس إلا قشوراً معرفيّة لا تسمن ولا تغني من جوع، فطوبى لغرباء المعرفة في زمن الإتاحة المعرفية.