الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

الكسل الإبداعي

كان أحد معارفي مشهوراً بصفة الكسل، حتى أصبح مضرب الأمثال في العائلة لكسله الإبداعي المفرط، والذي دفعني إلى وصفه «بالإبداعي» هو قدرته العجيبة على اختلاق قصة في كل مرة لتجنبه القيام بعمل ما.

كانت حججهُ المتواترة مسبوكة جيّداً، لا يمكن لأحد مهما بلغ ذكاؤه دحضها، ولم أعرف حتى الآن، كيف نجح في حياته على هذا النحو، فهو يؤجل كل شيء، ومستغرق في تأملاته طيلة الوقت، وعندما كنا نسأله:

ــ بماذا تفكر؟

يجيب: لا شيء!

لكن من الواضح أنه يمتلك توقيتات مختلفة عنا، وطريقة إنجازه للأمور خاضعة لشفرة ضمنيّة يستجيب لها كلما ألحت عليه قضية مستعجلة، ومن المستغرب جداً أنه حقَّق إنجازات مهمة في حياته تستوجب عمراً إضافياً لإنجازها.

كتبَ الروائي التشيلي أنطونيو سكارميتا، في مقدمة روايته الرائعة «ساعي بريد نيرودا» عن كسله المزمن، حيث تأخر في كتابة روايته ذائعة الصيت 14 عاماً لإنجازها، فيما أنجز مُجَايِلُه ماريو بارغاس يوسا 5 روايات حققت نجاحاً ساحقاً.

كان سكارميتا يعدُّ على أصابعه إنجازات أصدقائه تحت أغطية فراشه الدافئ، وربما من حيث لا يعلم جعلَ بطله «ماريو» يعاني من نفس صفة الكسل هذه، وكذلك في ميله الواضح للزكام المتكلف، والتمارض الذي لا ينتهي.

للكسل أنماط كثيرة ومتنوعة، تؤدي أغلبها إلى إفساد مستقبل من يسلكها نظاماً في حياته، لكننا نستطيع أن نحملها أيضاً محمولات أخرى من تاريخ بعض الكسالى الذين استطاعوا أن يتركوا بصمتهم في التاريخ، وخاصة على المستوى الإبداعي.

ففي كثير من الأحيان يأخذ نمط الحياة المختلف عن المتعارف عليه شكلاً من أشكال الكسل، لكنه وفي طبيعته الحرة، يُسْهم في إنجازات جديدة ومختلفة.. فقد تعود الفيلسوف الألماني أدموند هوسرل على عدم إنهاء أي بحث يشرع فيه، إذ كان يترك لطلبته مهمة إنجازه مع وضع ملاحظاته الأخيرة على العمل.

هذا النوع الفريد مما نسميه الكسل أيضاً، هو حالة استثنائية تخص بعض العباقرة، الذين لا يشبهوننا في طبيعة الحال، فهم وفي أثناء لحظات الإنتاج التي تبدو موجزة، يبدون تركيزاً عجيباً ومكثفاً، فقوة التركيز وقت العمل هي النشاط الحقيقي الذي نحتاج أن نتعلمه على أية حال.

وبينما كانَ سكارميتا يتكاسل في الكتابة، كان بالمقابل يطوف حول بيت نيرودا الذي كتبَ من أجله تلك الرواية، وهذا ما أحب أن أسميه بالكسل الإيجابي، الذي يوفر في نزوعه إلى الراحة مفاجآت تغير وجهة العالم أحياناً والى الأبد.