الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

في البدء كانت.. الثقافة

لا تبدو الثقافة بمفهومها الشامل منفصلة عن كل ما يجري على كوكبنا منذ الأزل، فالمجتمعات تشكلت داخل أطر ثقافية، قبل أن تتحول إلى تجمعات بشرية عقدت الاتفاقات وخاضعت الحروب، كما أن «الحرب أولها كلام» كما قال الشاعر العربي نصر بن سيار، والكلام هو أبرز أركان الثقافة في أي مكون اجتماعي.

والكلام اليوم باتت له منصات يتشكل فيها، منها النصية كبطون الكتب، ومنها ما هو حديث كمواقع التواصل الاجتماعي والقنوات التلفزيونية والإذاعات، غير أن أخطر أنواع الكلام الذي يقود للحرب أو للسلام هو ذلك الذي يتوجه للعقول ويرسم الأفكار والأيديولوجيات والهويات الاجتماعية والثقافية، التي كانت هي المحرك الأول عبر التاريخ لخوض الحروب والصراعات.

لا تزال الثقافة حتى اليوم ترسم ملامح المجتمعات وتحدد مساراتها، وإن كان كثير من راسمي السياسات العرب على وجه التحديد يتعاملون معها كمعطى هامشي، غير مدركين لأبعاد العامل الثقافي ودور الثقافة الحاسم في صنع التحولات، ورسم الحدود الجيوسياسية.


وعندما نتحدث عن الثقافة فنحن نشير لكل عناصرها، وصورها البسيطة والمعقدة، بدءاً من القصيدة الشعرية والرواية مروراً بنتاجات الإعلام ومخرجات مراكز الدراسات والبحوث، وصولاً للهويات الدينية والمذهبية والإثنية التي هي كذلك نتاج ثقافات مبكرة.


ومن يتأمل جيداً في طريقة تعاطي الدول الكبرى في العالم وخصوصاً تلك الدول القائمة على إرث تاريخي وقومي، يجد مدى إدراك تلك الدول القومية لأهمية الثقافة، وحساسيتها المفرطة تجاه كل ما هو ثقافي، وتكفي الإشارة هنا إلى أن أعنف الصراعات والحروب التي شهدتها البشرية، كما هي الحال في الحرب العالمية الثانية كان نتيجة لتكثف فكرة ثقافية قائمة على التفوق العرقي قامت عليها «النازية» واستطاعت أن تحشد حولها الملايين من البشر.

وعند تتبع الواقع العربي الحافل بالتناقضات والصراعات والجماعات والمذاهب والأيديولوجيات، نكتشف أن بذرة كل حرب وصراع وجماعة كانت في الأساس نابعة من فكرة ثقافية بسيطة، قد تكون شريرة وتنتهي بحرب وقد تكون بحثاً عن التمايز فتنتهي إلى هوية جديدة، تعمق حالة الانقسام المجتمعي وقد يتنظر إليها باعتبارها نموذجاً للتنوع الثقافي في أحسن الأحوال.

وكل ما سبق يقودنا إلى حقيقة مفادها: أن ما نحصده بعد عقود أو قرون أو حقب من الزمن هو نتاج فكرة تحوَّلت إلى ثقافة، وهو الأمر الذي أكدته الأديان كذلك، ففي المسيحية يقال: «في البدء كانت الكلمة»، بينما كانت أول سورة نزلت في القرآن الكريم هي «اقرأ».