الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

وهم «الصَّحفي المواطن»

بدأت الصحافة تفقد بريقها وقوتها التي سطعت خاصة منذ مطلع القرن الـ19، حينما كانت أقليّة من النخبة تكتب والأكثرية من الناس يقرؤون، كانوا يكتبون الفكر والعمق، وظلت الصحافة لقرون تمنحنا العمق والذاكرة، وما زلنا إلى يوم الناس هذا نتذكر ونستمتع بقراءة أو إعادة قراءة تلك المقالات الطويلة للكتاب والمثقفين عبر الصحافة على غرار حديث الأربعاء لطه حسين، أو مقالات اليوميات لحسنين هيكل في مصر، أو محيي الدين عميمور في الجزائر. وكانت كتاباتهم عندما تنشر تثير النقاش والجدل فتثري الفكر والمعرفة.

وبعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، وتحت تأثير الحرب التي جعلت الناس في حاجة لمتابعة أخبار أبنائهم في الجبهات، قدرت المجتمعات أنها بحاجة لتخصص قائم بذاته يهتم بنقل الأخبار ويحللها، مثلما كانوا في حاجة لمختص في العلاج ومختص في بيع الخضراوات.. فأنشأت معاهد الإعلام التي تكون صحفيين يعرفون كيف يكتبون ويتحملون مسؤولية ما يكتبون.

جاءت تكنولوجيا الاتصال وتطورت بشكل مذهل، وأتاحت لجميع الناس فرصة الكتابة والتعبير عن الرأي والذات، بدون أن يكون لغالبيتهم الغالبة لا أسلوب ولا لغة ولا حتى فكرة، ولا تحمل مسؤولية ما يكتبون.. يملؤون الفضاءات الزرقاء بالغث في العادة، وأحياناً بالتجريح والإشاعات ومعلومات خاطئة وربما مفتعلة أصلاً، وأطلق هذا النوع من الكتاب على أنفسهم، أو أطلق عليهم اسم «الصحفي المواطن» وأصبح هذا الأخير يزايد على الصحفي الحقيقي المتكون والحامل لشهادات جامعية في التخصص.

إن التكنولوجيا منحت الفرصة فعلاً لجميع الناس للتعبير والتواصل، لكنها لم تنصب أحداً صحفيّاً أو كاتباً، وإذا أجاز البعض لأنفسهم أن يسموا أنفسهم «المُواطنين الصحفيين» فلماذا لا ينصبون أنفسهم أطباء بدون تلقي تكوين في الطب، وينطبق هذا على تخصصات أخرى أيضاً، مثل الطيار؟

لذلك تعرض الفضاء الأزرق لجملة من الانتقادات، حيث يلتقى فيه وبنفس القيمة والقامة الطبيب والمهندس والأديب مع الجاهل والأمي، وأحياناً يزايد الجاهل والأمي على الطبيب والأستاذ، ويسمح كثير من المستخدمين لأنفسهم كي يتحولوا أداة هدم بإعادة نشر أو التفاعل مع «الذباب الإلكتروني» بدون تمحيص وبدون التأكد من الخبر أو المعلومة، وقد يكون الخبر صحيحاً لكن التفاصيل قد تكون خاطئة.

هذا الوضع ــــ أي وهم الصحفي المواطن ــــــ جعل الكثيرين يغلقون حسابتهم، فالفيسبوك مثلاً غادره نحو 50 مليون مستخدم لهذه الأسباب.. فهل يأتي اليوم الذي نعود فيه لعصر الصحفي الحقيقي الذي يكتب في الفضاء الرقمي والآخرون يقرؤون ويعلقون؟.