الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

«العودة إلى الألفة الرحيمة»

في زيارتي الأخيرة إلى بغداد، طلبت من صديقتي أن تأخذني، حيث مدرستي الابتدائية القديمة «المنصور التأسيسية» والتي لا ينفك ظلها عن ملاحقتي في كل رحلاتي.. ثمة شيء هناك، في كل البلاد، ينكفئ على نفسه دائماً، وكأنه مدرسة.

ومن الملفت أنني لا أستطيع أن أتعرف على أي مكان أتواجد فيه دونما خيال يضع في إحدى شوارعه مدرسة، تشبه تلك التي تعلمت فيها التهجئة، وفركت يديّ ثم نفخت عليهما من شدة البرد في صباح فبراير من طابور الخميس.. مدرسة بطلاءات حادة، وصفوف مصنفة حسب الألوان، تكتظ بقاعات مسرح الباليه، والمكتبات، وقاعات الرياضة، والنشاطات المدرسية، والتي أقفل معظمها للأسف.

دخلنا إلى البهو الخارجي، وتسللنا إلى الباحة الوسطية، ذهبت إلى صفي«أول ــ أحمر»، وجلست على الرحلة التي تعلمت فيها تهجئة كلمة «دار»، ثم خارت بعدها قواي، وتصعدت الشهقات من داخلي حتى غمرتني الدموع دون إرادة مني.

في هذه المراحل، وأقصد الطفولة الأولى، غالباً ما يجهل الإنسان الشعور الحقيقي للقلق، الذي يكشف العالم عن نفسه لنا بوصفه موحشاً ومخيفاً، كما أن الكلمة الألمانية «unheimlich» التي تؤشر إلى القلق، تعني حرفياً أن «هذا ليس بيتي».

حسب الفيلسوف الألماني هيدغر: «إن القلق بالنسبة للكائن يكشف عن (غرابة الكائنات كلية أي بمعنى أن في) البيت الذي لا أعرفه تبدأ اللحظة غير المألوفة، ويبدأ العالم بالانفكاك عن معنى الدار، ثم يتهاوى في مصفوفة من الأماكن الغريبة والموحشة، والتي نضطر لأن نتعايش معها فيما بعد».

تبدأ المدرسة في هذه المرحلة مشاركة مهام البيت الأول، ثم ما تلبث أن تصبح في وعينا «كل الأمكنة المألوفة» خاصة إن كنتَ من جيل «القراءة الخلدونيَّة» (التي تعني كتاب القراءة للمراحل الابتدائية في مدارس الدولة العراقية منذ تأسيسها حتى الآن)، التي وظفت فكرة«الدار» في أول كلمة نتعلمها للكتابة.

في تلك اللحظات، عندما جلست على المسطبة في وسط ساحة مدرستي، كان الهواء عذباً والهدوء مهيباً، شعرت براحة عميقة وكأني كاهن يتأمل في وادٍ من السلام، بينما يتقاتل الناس في السفوح المجاورة، وهذه هي دار السلام الوحيدة الذي سنصادفها في حياتنا.