الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

الفكر الثقافي للعمران

ليست الجغرافيا والجيولوجيا سوى علوم ثقافيّة ذات أبعاد حضارية، مرتبطة بالمجتمعات وقدرتها على بناء علاقات مع فضائها المحيط بها، وتأسيس أنساق معرفية قادرة على التشكيل من خلال الإبداع والابتكار كل بحسب إمكاناته وما توفره له الطبيعة، والتطور المتوازن.

ولأن الجغرافيا ذات أبعاد حضارية فإنها مرتبطة بالسياسة والاقتصاد وبالتالي بالتنمية التي تنشد المجتمعات استدامتها، إنها الأساس الحضاري الذي تقوم عليه تلك المجتمعات، ولهذا فإن قدرات الدول تختلف حسب موارد جغرافيتها ومدى الاستفادة من معطيات تلك الموارد لبناء أنساق حضارية حديثة قادرة على الصمود، بل التنافس من أجل الاستدامة.

ولهذا فإن سلطنة عمان بتنوع جغرافيتها، ومواردها الجيولوجية والحضارية، أسست لاستراتيجيات عمرانية ذات أبعاد ثقافية، واجتماعية واقتصادية منذ بنائها لأنظمة الحارات القديمة وتخطيطها للمحافظات المتعددة بتعدد تضاريسها، لتشكل منظومة من المجتمعات العمرانية المتناغمة والمتكاملة اقتصاديا.


ومع المتغيرات الحضارية التي تمر بها السلطنة منذ عهد النهضة، تطور التخطيط العمراني، وظهرت أنماط عمرانية حديثة تتواءم مع الانفتاح العصري، والأصالة الحضارية لهُويتها الثقافية، ولذا فإن الاستراتيجيات العمرانية تتطور وفق رؤية عُمان 2040 التي تهدف إلى تمكين مجتمع المعرفة، وبالتّالي فإن التخطيط العمراني وفقاً لهذه الرؤية يقوم على مبدأ التنمية الجغرافية، الذي يتأسس على بناء المدن المستدامة، وتعزيز نهضة المحافظات بيئيّاً واجتماعياً من أجل تحقيق الميزة النسبية والتنافسية.


ولتحقيق ذلك فإن الاستراتيجية العمرانية العمانية 2040 تقدم نموذجاً حداثياً في تمكين مجتمع المعرفة بناءً على الأولويات الاجتماعية والبيئية والاقتصادية، لتأسيس مدن ذكية وريف حيوي قادر على المساهمة في التنمية؛ حيث ركزت الاستراتيجية على تخصيص كل محافظة لذراع تنموية متوائمة مع معطيات البيئة الجغرافية وثقافة المجتمع مدعماً بالتقنيات الحديثة ومنظومة الابتكار والإبداع اللازمة، فمحافظة مسقط ستمثل البوابة الوطنية التي تربط عُمان بالعالم، أما محافظة جنوب الباطنة وشمالها فإنها ستمثل بتنوع جغرافيتها نموذج التوازن الاقتصادي ما بين البحر والسهل، ومحافظة البريمي ستكون قاطرة الترابط بين الأسواق الداخلية والخارجية، لتكون الظاهرة ذراع التصنيع اللوجستية والهندسية والغذائية، والداخلية مركزاً للعلم والثقافة وريادة الأعمال، لتشتغل الشرقية بجنوبها وشمالها في ريادة صناعات صيد الأسماك واستزراعه من ناحية، والهندسة التكنولوجية والتقنية من ناحية أخرى.

أما محافظة الوسطى، فإنها المركز الإقليمي للموانئ والأعمال، فيما تكون ظفار بوابة المراكز الريفية والأمن الغذائي، في حين تكون مسندم بوابة العلاقات الاقتصادية بين عُمان ودول الإقليم.. إنها استراتيجية تنشد التنمية العمرانية في بيئة ثقافّية مستدامة.