الخميس - 28 مارس 2024
الخميس - 28 مارس 2024

من وراء الشَّعْبَويَّة الثقافية؟

الثقافة بطبيعتها مثل فضاء السماء، كلما تصاعد فيها الإنسان كلما اتسع الأفق، وزادت مساحة المجهول، وقلَّت مساحة المعلوم.

والثقافة في حقيقتها شعلة نور تضيء عقل الإنسان فتنير عوالمه، ويزداد شغفه للمعرفة، وتتسع مجالات اهتمامه، فيصير أكثر عطشاً للتعلم، وأشد شوقاً للاطلاع، وأكثر توقاً لمعرفة المزيد، لذلك تبدأ الثقافة عند الإنسان بالاطلاع أو السماع، ثم تصير عادة تدفعه لمزيد من القراءة أو السماع أو الرؤية، ويظل الإنسان كذلك في توق وشوق للتثقف والمعرفة حتى يفارق الحياة، ونار الشغف أكثر اشتعالاً في قلبه، ونور المعرفة أشد توقداً في عقله.

لا يعرف معنى الثقافة من يظن أنه بعد قراءة بضعة كتب قد أصبح عارفاً أو مثقفاً أو عالماً، فهذه هي بداية مرحلة الجهل البسيط أو الجهل المركب.


في المجتمعات الصحية السليمة الطامحة في الرقي والتنوير الحقيقي يسعى الناس جميعاً نحو مزيد من الثقافة والتثقيف، ولا يخشى أحد من توسع معرفة البشر، ومن ثراء ثقافتهم، أما في المجتمعات التي تقف على الشاطئ الآخر من العالم فإنها تخاف من المعرفة، ومن الثقافة ومن النور الذي يضئ العقول، لأن ذلك النور يزيح الظلام رويداً رويداً، ومعه تنزاح كل قوى الظلام التي تسعى للسيطرة على العقول لتحويل الإنسان إلى روبوت، يتم تحريكه من قبل كهنة معابد الظلام.


من يتابع الواقع العربي والإسلامي يجد أن هناك قوى عديدة تسعى بكل طاقتها لمنع تدفقات الثقافة الراقية، ووقف النمو الثقافي للفرد والمجتمع، وذلك من أجل الوصول إلى حالة وسيطة بين الجهل والعلم، يكون فيها الإنسان نصف جاهل ونصف عالم، يجمع النقيصتين معاً، فيكون فيه انغلاق الجاهل الذي يظن أنه عالم، ورسوخ قناعة العالم الذي لا يعترف بجهله.

وهنا يثور السؤال: لماذا تكون الثقافة الشعبوية التي تنتج جهلاً مركباً هدفاً استراتيجياً لقوى كثيرة في العالمين العربي والإسلامي؟

والحقيقة الواقعية تقول لنا: إن الكثير من القوى ذات المصالح في التحكم والسيطرة على مجاميع بشرية كبيرة تلجأ لنشر الثقافة الشعبوية ودعم روادها، وعرقلة تطور ونمو الثقافة الراقية، وذلك من أجل إيجاد حالة واسعة من الجهل المركب عند جماهير كبيرة تكون مستعدة للموت دفاعاً عنه، الذي هو إدراك للواقع على عكس حقيقته مع اقتناع كامل أنها حقيقة.. هنا تتحول الجماهير إلى قطعان تسير خلف الراعي، الذي يغذي فيها الجهل المركب من خلال كل وسائل الثقافة الشعبوية.