الأربعاء - 17 أبريل 2024
الأربعاء - 17 أبريل 2024

إنسان الروايات الجميل

عادة ما يكون الحديث مريحاً مع الناس الذين يقرؤون الروايات، ليس لأنني أكتب الرواية، وليس لأن الرواية فن ممتع يحمل معه شيئاً من المعارف، بل لأن الرواية تعلمنا أولاً تفهم موقف الآخرين، فهي النافذة الوحيدة التي نستطيع أن نطل منها إلى داخل عقل الإنسان وقلبه، ونعرف كيف يفكر، ولماذا يتخذ هذا القرار دون سواه.

الرواية تعلمنا قبول وجهة نظر الآخر، لأنها تقول لنا كيف ولدت وجهة النظر هذه، وتحت أي ظروف جاءت، وكيف تؤثر على حياة صاحبها وعلاقته بالعالم.

فنحن تفهمنّا المواقف الجنونية لمدام بوفاري وتعاطفنا معها، لأننا عرفنا شكل تصورها للحياة الجيدة التي تعتقد أنها ستكون أفضل حالاً بداخلها، وتفهمنا موقف راسكولينكوف النفسي ولماذا ارتكب جريمته، كما أننا تفهنا لماذا فعل جوليان سورال بطل رواية الأحمر والأسود لستاندال كل ذلك الجنون، وعندما أقول (تفهمنا) لا أقصد أننا نوافق على وجهات نظرهم، بل عرفنا أسبابها.

وهذه الحال تنسحب على تفهمنا للثقافات الأخرى، فبدون قراءة رواية «نصف شمس صفراء» لتشيماماندا نجوزي مثلاً، لم نكن نعرف كيف يفكر شعب نيجيريا وكيف عاشوا حياتهم تحت ظروف الاستعمار، وكيف تورطوا في الحرب الأهلية.

وبدون روايات كونديرا لم نكن نعرف كيف فكر الشعب التشيكي وهو يواجه تدخلاً عسكرياً في بلدهم، وقبل أن نقرأ رواية النباتية لهان كانغ لم نكن نعرف مكانة الأسرة، أو المرأة تحديداً في المجتمع الكوري، ومن دون هوروكامي والروائيين اليابانيين العظام لم نكن نعرف عن طبيعة تفكير العقل الياباني من داخل هذا العقل.. وهكذا هو الأمر مع شعوب أمريكا اللاتينية والهند والصين وغيرها.

لذلك أقول: إن قارئ الروايات يكون في الغالب شخصاً مرناً متسامحاً ومتفهماً، لأنه لا يفكر بمنطقه الشخصي فقط، فهو يعرف أن ظروفه هي ليست نفسها ظروف الآخرين، وإذا كان عليه أن يحكم على كل سلوك، أو كل وجهة نظر أو معتقد، أو حتى قائمة الطعام لدى الآخر، فهو ليس فقط يعرف أنهم مختلفون، بل يعرف ما هي الشروط الحياتية التي صنعت هذا الاختلاف، وهذا لن تجده في مكان ما مثلما تعثر عليه في الرواية.

ميزة الروايات أنها تقدم لنا ما هو مشترك بيننا كبشر داخل ظروف وثقافات وعقائد مختلفة، والعلم يصف لنا الإنسان ويقدم له التكنولوجيا، لكن الرواية تفسره وتقول لنا: لماذا هو إنسان.

لذلك كلما تصاعد عدد الروايات التي أقرؤها، تزداد قابليتي على صنع الأعذار للآخرين، فنحن جميعاً، وفي نهاية المطاف، أبطال رواية هذه الحياة.