الثلاثاء - 19 مارس 2024
الثلاثاء - 19 مارس 2024

ما هي خيانة المثقف؟

قد يكون الأفضل البدء بالسؤال: من هو المثقف؟

هذا السؤال المعقد الذي تعددت الدراسات للإجابة عنه، والمفهوم الذي (راق لي) من بين كثير من التعريفات التي طرحها الكُتاب والمثقفون في دراساتهم، هي أن المثقف هو الشخص الملتزم اجتماعياً، الذي يمتلك وعياً ومهارات تعبيرية تمكّنه من التأثير على فئات المجتمع والسلطة السياسية، وبالوقوف عند هذا المفهوم يتبادر سؤال آخر، وهو: كيف تلاشى تأثير المثقفين اليوم على كافة المستويات؟

في كتابه الشهير «خيانة المثقف» يعرّف الكاتب الفرنسي «جوليان بندا» المثقفين بأنهم الأشخاص الذين امتهنوا الانشغال بالأدب والفنون والفلسفة والبحث في الأفكار الميتافيزيقية، ويتميزون بانحيازهم للأفكار الإنسانية المثاليَّة، وعدم استغلالهم مواهبهم ومهاراتهم الثقافية في جني المنافع المادية.


صدر الكتاب في فرنسا عام 1927م، ثم صدرت الطبعة الثانية المحسنة منه عام 1946، بعد الحرب العالمية الثانية، وكان العديد من المثقفين الفرنسيين في ذلك الوقت قد تورطوا في التعاون مع المحتل النازي حين احتل باريس، ما جعل لكتاب «بندا» تأثيراً كبيراً في الرأي العام الفرنسي حينها.


وفي الكتاب يتهم بندا زملاءه المثقفين الفرنسيين من التيارات اليمينية واليسارية بالخيانة للأفكار المثالية؛ لأن أفكارهم أيديولوجية تصدر عن ولاء حزبي، فهي أفكار منتمية تثير الكراهية ولا تتسم بالتسامي الإنساني، وهذا الاتهام أثار حفيظة جميع التيارات ضده.

في مقدمة الكتاب يقتبس بندا مقولة ألان فرنكليكروت: «حين تصبح كراهية ثقافة ما هي الثقافة نفسها، فلا معنى للحياة الفكرية»، فهل يسهم المثقفون من كُتاب وأدباء وإعلاميين في نشر الكراهية؟، هل الكراهية هي فعلاً جزء من البنية الفكرية التي يتبنونها ويتحركون في نطاقها؟

نحن فعلا نستطيع تلمس الخطاب التحريضي في كثير من منجزات من يمكن تسميتهم مثقفين اليوم، إن لدى كثير منهم ممن يتصدرون المشهد الإعلامي انحيازات عدائية مبدئية تجاه الآخر المخالف، تصل أحياناً إلى مرحلة التحريض، فالمثقفون بهذا المعنى أصبحوا يبتعدون شيئاً فشيئاً عن الوظيفة السلمية التي يتوجب أن يكونوا رُسُلها.

في المقابل، فإن كثيراً منهم يجنون المكاسب المادية والماليَّة جراء الخطاب التحريضي الذي يمتهنونه، وقد يكون ذلك أهم الأسباب التي أفقدتهم التأثير الاجتماعي والسياسي الذي تمتعوا به قروناً طويلة.

وإذا عدنا للسؤال الرئيسي: ما هي خيانة المثقف؟ فإحدى الإجابات في هذا السياق تكمن في تغير الانحيازات من المثالية الإنسانية إلى الانتماء الأيديولوجي، والتحول عن تبني الأهداف والمبادئ السلمية، إلى الحثّ على الكراهية والتحريض ضد الآخر.