الخميس - 28 مارس 2024
الخميس - 28 مارس 2024

المَظْلمَة الأدَبيَّة

بعض الجمل تستمر في التاريخ كما لو أنها وُلدت منحوتة من جسد الأبديّة، فتتحدى الزمن والموت، بل كثيراً ما تتحول بقوة صدقها إلى شيء يشبه الحكمة.

ذكر أبو هلال العسكري (308 – 395هـ) في كتابه «الأوائل» أنه لما بويع عبد الله بن المعتز بالخلافة سنة 296هـ، ولم يلبث فيها غير يوم وليلة ثم قُتِل، قال الناس: «لم يكن به بأسٌ ولكن أدركته حرفة الأدب»، وكانوا يعنون بذلك عالم العزلة، الفقر وقلة الحظ.

جميل أن يكلل جهد الكاتب باعتراف ما، في حياته أولاً، لأن المُكرّم بعد موته لا يحتاج كثيراً إلى مواكب الأعراس الفارغة.


الكاتب الإنجليزي وليم ميكبيس ثاكري، لم توصله أعماله الأدبية إلى الثروة، فهجرها للصحافة، وقال كلمته المشهورة «الأدب ليس تجارة ولا مهنة ولكنه الحظ الأنكد».


معاناة الكاتب والفنان أكبر من أية لفتة على الرغم مما لهذه اللفتة من قيمة.. لا شيء يعيد له الساعات التي قضّاها منكفئاً على فمه، على الرغم من مرضه وتعبه، ينسج نصاً قد يعجب القراء، وقد لا يعجبهم طبعاً.. الكتابة هي العالم الوحيد الذي لا ضمانة مسبقة فيه، لا نعرف مردوده أبداً، حتى عندما نكون معروفين ولنا اسم كبير في الوسط الثقافي، قد يأتي نحونا من لا نتوقعهم، وقد نظن أننا كتبنا نص العمر، فنفاجأ بالعكس تماماً.

لا شيء يُرجع له الانهيارات النفسية الداخلية والانكسارات التي لا تعوض، والأمراض التي تلقاها، وآلام المفاصل، والقلب، والمتاعب الصحية والنفسية، كل هذا يمكن تخطيه بالصبر والإصرار على العمل، والمشكلة الكبرى في العالم العربي، هي عملية جلد الذات المتكررة، فكلما فاز عربي بجائزة وطنية، أو عربية، أو عالمية، بدل أن نتسابق لنبارك له فوزه، وهذا ما تقوله الأخلاق والأعراف، ونتصرف بروح رياضية عالية، نُخرِج كل الأمراض المترسبة فينا من حسد وضغينة وأحقاد دفينة، نبرر بها إخفاقاتنا، فنتصرف كعصابة، وننتظم في شكل مليشيات ثقافية لا عمل لها إلا تكسير الآخرين.. كيف فاز؟، لماذا هو وليس فلانا؟، مَنِ الجهة التي تقف وراءه؟، وتستمر العملية في نهجها التدميري حتى تصل إلى الخيانات، والعمالات، والعلاقات المشبوهة مع الصهيونية، والماسونية، والأنظمة، وغير ذلك.

لم يُقبل فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل إلا مع الزمن، وبدل البحث عن القيم الأدبية التي خلقها الكاتب وتفرد بها عن غيره، نختصر الطريق ونبدأ في تدميره برميه بكل التهم الممكنة التي يرسمها في النهاية خيال عربي مريض، طبعاً، هذا الموقف لا يضع نجيب محفوظ خارج النقد، خارج التأمل.

تنسى المليشيات الأدبية المستعدة لقتل النجاح، أن الجائزة كيفما كانت هي خيار لذائقة محددة، ويبدو وضعنا عربياً، أقرب إلى الشيزوفرانيا، وإلا كيف نفسر هذه الضغينة التي تستيقظ كلما حقق أديب عربي نجاحاً ما؟، وكأننا، من شدة الرطوبة التي تأكلنا في عزلتنا، أصبحنا كالدببة القطبية خارج مدار أي إحساس.