الأربعاء - 24 أبريل 2024
الأربعاء - 24 أبريل 2024

«آسيا جبار» ومتعة التخييل التاريخي

التخييل ليس فقط كتابة وخروجاً عن دائرة المألوف المادي، لكنه أكثر من ذلك كله، إنه مساحة محتملة من حياة أخرى لا تستطيع إلا الكتابة لمسها ومنحها لنا بسخاء، والدفع بنا كقراء نحو دروب القراءة التي نتمنى دوماً أن تستمر.

ندخل هذه المساحات الحميمية لنتعرف على الحياة الإنسانية بكل غناها، ونتعرف على مختلف الشعوب بأفراحها وآلامها، نبكي معها ونحضر أعراسها، بدون جمارك ولا شرطة حدود ولا فيزا غبية، وضعت بين البشرية الحدود الزائفة، إذ لا تعمل إلا على تدمير الحب الإنساني باتساعه وغناه، فالأرض كلها للإنسان.

الأدب وحده يعيدنا إلى هذه المصالحة الإنسانية الكبيرة، والكتابات العظيمة هي تلك التي جعلت من هذه المقولة رهانها الجميل، وبثته داخل حروفها النورانية، وآسيا جبار، الكاتبة الجزائرية التي أخطأت نوبل بقليل، إذ كانت المرشحة رقم واحد لثلاث دورات، بعد أن عاشت عالماً مليئاً بالأحلام والانكسارات والحنين، واحترقت بقسوة الثورة الجزائرية وتاريخها القاسي، واستمرت أكثر من نصف قرن بعد الاستقلال، ورأت التحولات والأخطاء التي ارتكبت بعد الاستقلال، ونشوء جيل من الورثة لا شيء يربطهم بأرضهم، أنشأت نشيدها الأدبي الخاص من خلال الرواية، وذهبت بعيداً في أسفارها التي تجعل من الحياة رهاناً إنسانياً أولاً وأخيراً، فاستعملت حاستها النقدية متوسلة كل الوسائط الفنية المتاحة لها من خلال الكتابة الروائية، فكتبت رواية العطش في 1953، والقلقون في 1957، ثم أطفال العالم الجديد، القبرات الساذجة، وغيرها، واستمر عطاؤها لاحقاً بروايتها: بعيداً عن المدينة المنورة.


في فترات الإرهاب انضمت إلى قافلة المدافعين عن حق الإنسان في الحرية والكرامة والعيش الآمن، فكتبت بياض الجزائر، ليالي أستراسبورغ، وهران لغة ميتة، وغيرها، كما تناولت الحقبة الدموية من تاريخ الجزائر من موقع الدفاع عن الإنسان في حقه الأول في الاستمرار.. الأرض للجميع ولا حق لأي كان بأن يعتبرها ملكه أو ضيعته.


حاولت أن تشتغل روائيةً في نصها بعيداً عن «المدينة المنورة» على بعض النصوص التاريخية والدينية بكل اجتهاداتها وتمايزها كتاريخ الطبري، وطبقات ابن سعد، وسيرة ابن هشام، فاستحضرت من خلالها شخصيات نسائية كان لها الدور الحاسم في تاريخ الإسلام مثل شخصية عائشة، وغيرها، وهذه الجهود جعلت أدبها يترجم إلى أكثر من عشرين لغة، منها العربية، التي ترجمت إليها في وقت مبكر مثل رواية القلقون والعطش وأطفال العالم الجديد.

هذه الجهود المميزة في المجال الإبداعي والإنساني والحضاري التي تناولت فيها الكثير من القضايا المختلفة من موقع إنسانيتها وليس خصوصيتها المحلية، عينت نتيجة هذا البعد الواسع في النظر، في جامعة لويزيانا كأستاذة للأدب الفرانكفوني، ثم كرمت بعضوية الأكاديمية الفرنسية.