الخميس - 25 أبريل 2024
الخميس - 25 أبريل 2024

الثّقافة.. و«برادايم» التّنمية

يعود أصل تسمية «تجديد الأنموذج» إلى علم الفيزياء الحديثة، كما أورده «فريتجوف كابرا» وهو يعقد مقارنة بين أنموذجين، أنموذج فيزياء نيوتن «الفيزياء التقليدية وأنموذج النسبية الحديثة»، وإذا كانت الفيزياء التقليدية قد تمثلت للعالم تمثلاً تجزيئياً يقضي بأن المعرفة الكلية لا تتم إلا بمعرفة الجزء، فإن الفيزياء الحديثة تنظر إلى العالم نظرة نسقية قائمة على الوحدة والتكامل بين مختلف الأجزاء، لذلك لا تؤمن الفيزياء الحديثة باستقلالية الجزء وقوته المنفردة في التأثير على نسق منظومة بعينها.

العالم اليوم برمته تائه وعاجز، نتيجة لأزماته المركبة التي زادت من حدتها التحولات المناخية والآفة الوبائية المسترسلة، ما يعني أن البرادايم المعتمد عالمياً قد استنفذ دورته وأصبح متقادماً.

لم يعد من باب العلمية أن تكون سيناريوهات المكون الاقتصادي والمالي جزءاً طاغياً ومهيمناً على برادايم التنمية وتحقيق الرخاء، لأن آفة العصر بينت أن الأزمة مركبة وكلية، ليست اقتصادية ومالية واجتماعية فقط، بل هي بيئية وثقافية، وقيمية، وصحية، ونفسية.


كما كشفت هذه الآفة أن هناك فجوة مريعة بين التصورات والسياسات المحددة للبرادايمات التي يضعها العلماء، وبين صانعي القرار من السياسيين الذين يملكون القوة المادية والقدرة على التنفيذ والإنجاز، ومصدر هذه الفجوة آتٍ من جهة تسييس هذه التصورات، إما من داخل الدولة الواحدة بالتجاذب الضيق لمكوناتها الحزبية والسياسية، أو من خارجها في سياق ما يعرف بالصراع الدولي بحثاً عن التموقع والهيمنة الجيواسترتيجية.


لا يمكن لأي برادايم أن يكون ملائماً وناجعاً إذا لم يكن مؤطراً بمنظور إنساني كلي، الإنسان هو مقياس التنمية، هو ملموسها ومحسوسها، بدونه يبقى شعار التنمية فوقياً لا يستند إلى شرعية الأصول المتمثلة في المعنى المؤسس للوجود، لا وجود موجود بتعالٍ عن كينونة الإنسان الثقافي.

كل تاريخ البشرية حسب الأنثروبولوجي مالينوفسكي له معنى معقد بتخللات العقل وما بعده، الوجدان وما بعده، أو لنقل بتخللات مكونات النفس أو هلام الروح الذي اعتبرها توما الأكويني أصل كل شرعيات الوجود، وما عداها يعتبر من اللواحق التي تمثلها الماديات، كالاقتصاد، والمال، والتجارة، وغيرها.

حدث انحراف في المسار التاريخي للإنسان فانقلبت الموازين، وأصبحت اللواحق هي شرعيات الوجود، فغلب الإنسان الاقتصادي والمالي على الإنسان الثقافي، وانطلت الحيلة على العالم، إذ تشكل اليقين بأن أساس التنمية هو الاقتصاد، وأن جوهر الإنسان الذي تعبر عنه الثقافة لاحق أو تابع فقط، لذلك عظمت الحروب والشرور وتمَ العبث بالآدمية بتواطؤ وسائل الإعلام المعولمة والمنظومات المالية المتوحشة التي نصبت كل عدائها للثقافة.

من مسؤوليتنا اليوم إعادة طرح سؤال الثقافة كجوهر في أي برادايم موضوع للتنمية، لا باعتبارها لاحقاً للتأثيث فقط.