الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

اللَّهجات بدل الفُصحى

اللَّهجات ظاهرة لغوية طبيعية، لا سيما في اللغات واسعة الانتشار كالعربية والإنجليزية والفرنسية، وعلاقة العربية بلهجاتها لا تختلف كثيراً عن علاقة الفرنسية والإنجليزية والألمانية بلهجاتها، ورغم ذلك، فلا أحَد في بريطانيا أو ألمانيا أو فرنسا يريد إحلال اللهجات محلَّ الفصحى.

حَمَل الاستعمار لواء كتابة اللهجات في الدول العربية، ولعل اللورد دوفرين المفوض البريطاني في مصر كان أوَّل مسوؤل سياسي كبير يتبنَّى هذا المشروع 1883م، ولكن سبقه إليه المستشرق الألماني وِلْهَم سبيتا الذي دعا 1880 إلى استعمال العامية المصريّة بدل الفصحى، وزعم أن الفصحى تعوق التقدم العلمي والحضاري، ثم جاء وِلْيَم وِلكوكس، وهو مهندس إنجليزي عمل في مصر، فأحيَا 1893 دعوةَ سبيتا التي تَلقَّفها أيضاً مثقفون عرب كبار.

وفي المغرب العربي اتّخذت فرنسا سياسة لغوية أقسى من السياسة البريطانية في المشرق العربي، إذ تدخَّلت بشكل مباشر لفرض تعليمها ولغتها، وحاربت التعليم الأهلي ومنعت المدارس العربية والكتاتيب القرآنية أو قيَّدتها بشروط تعجيزية.


وفعل المستشرق الفرنسي جورج كولان (المتوفى 1977م) في المغرب العربي ما فعل سبيتا ووِلْكوكس في المشرق العربي، وقالك إن المغاربة مخيَّرون بين اتخاذ العامِّية لغةً للتعليم أو استخدام الفرنسية محلها.


وسعى مستشرقون فرنسيون لكتابة الدارجة الجزائرية وتدريسها، وعندما تصدَّت النخب الجزائرية لهذا المشروع الاستعماري، أصدرت فرنسا 1938 قراراً جَعل العربية الفصحى لغة أجنبية، ووصَف تعليمها بأنه معاداة لفرنسا.

وفي موريتانيا وضعت فرنسا سياسة خبيثة لاستئصال العربية، تمثَّلت في محاصرتها وتهميشها وتنفير الناس منها، لا سيما الأقليات الزنجية التي ظلت لقرون تستعمل لغة القرآن في التعليم والكتابة جنباً إلى جنب مع إخوانها العرب.

وكما تلَقَّف الدعوة إلى اللهجات مثقفون مشارقة تلقَّاها أيضاً مثقفون مغاربة، لكن جميع تلك المحاولات فشلت، واليوم يبدو أن الدعوة نهضت من مرقدها، إذ نجد بعض الهيئات الأدبية تَتبنَّى تشجيع الإبداع باللهجات، بل ظهر مَن يدعو إلى كتابة التاريخ بالعامية!

نَعَم لكتابة لغات الأقليات الأمازيغية والزنجية والكردية في الدول العربية، لأنَّ ذلك حقهم، ولأن هذه اللغات جزء من حضارتنا، على أن تظل العربية هي اللغة المركزية، ونَعَم للعناية بلهجاتنا ووَضْع معاجم لها لأنها روافد تغذي الفصحى ببعض المصطلحات المستجدة، لكن هذا شيء وإحلال اللهجات محل الفصحى شيء آخر.