الجمعة - 19 أبريل 2024
الجمعة - 19 أبريل 2024

الذاكرة المُراقبة.. ومنتقدو التراث

في إحدى كتاباتها العميقة حول تفكيك المقولات التاريخية الحاكمة في الثقافة العربية، بيّنت عالمة الاجتماع الراحلة، المغربية الدكتورة فاطمة المرنيسي، أن التذكر نشاط مراقب على مستوى عالٍ. وأن جواز السفر ليس متاحاً دائماً طوال الوقت للتجول في عالم الأموات والغائبين. ذلك أن الماضي النائم يمكنه أن يقول كل شيء عن الحاضر المشتعل. وتؤكد المرنيسي في كتاباتها أن الماضي روقب بإحكام. وأن المستهدف الثقافي هو الذاكرة التاريخية التي جرت مراقبتها وحراستها بشكل كامل.

من يقرأ تراث المرنيسي يدرك تماماً أن مشروعها الثقافي يقوم على كسر التفسيرات النمطية والمفروضة للتاريخ والتراث، التي يجري التعامل معها بصفتها حقائق ثابتة، وليس باعتبارها سرديات قابلة للتأويل والتفسير المتعدد. وأن هناك، دائماً، طرف مستفيد من «استقرار» تفسيرات التراث لمصلحته الخاصة، على حساب باقي فئات المجتمع جميعاً. لذلك، فإن العمل على نبش التراث، وإعادة قراءته يعد من المخالفات الجسيمة عند من نصبوا أنفسهم (حراساً) للتراث و(أدلاء) يتولون مهمة إرشادنا والأخذ بأيدينا إلى أصح المسالك لقراءة التراث وفهمه.

وليست مهمة «التحكم» بالتراث عبثية أو عشوائية، بل إنها منهجية مدروسة وذات غايات ترمي إلى ضبط الواقع والحاضر والتحكم في توجيهه. فذاكرة التاريخ والتراث هي مجموعة من الصور والتمثلات التي تحدد هوية مجتمع ما وتصوراته عن ذاته، وتصنيفه للآخرين المتعددين وكيف ينبغي أن تكون علاقاته بهم.


ليس الهدف من حراسة الذاكرة هو تقديم صورة معينة عن الماضي فحسب، بل تقديم تفسيرات محددة لما حدث قديماً، وقد يتحول طرح تفسيرات أخرى مغايرة إلى تجريم صاحب تلك التفسيرات ومعاقبته، وستكون العقوبة أشد إذا تمكن (الحراس) من الربط بين الخروج عن التفسيرات النمطية والمحددة للماضي والخروج عن المقدس! إن أخطر جريمة اقترفها حراس الذاكرة هي ربط التاريخ.. كل التاريخ بالمقدس.


لكن الإشكالية المضادة التي سقط فيها بعض منتقدي التراث في صراعهم مع (الحراس) أنهم نبشوا في البقع المظلمة والدامية في تراثنا، فأدخلوا القرّاء في حالة من الشك وفقدان الثقة في التاريخ، التي مثلت حالة اهتزاز عنيفة في الذات والهوية، وليست تلك بالطبع وظيفة نقد التراث.

إن القراءة المنهجية للتراث هي التي تبحث عن الحقيقة أياً كانت حقيقتها المؤلمة أو المزهرة من أجل بناء مستقبل أكثر إشراقاً واستقراراً. إنها القراءة التراكمية التي تجمع سلسلة الأحداث بمنطقية توصلنا إلى استيعاب وسائل العبور نحو البناء والشراكة. باستثمار جماليات الماضي وألقه، وتجنب سقطاته وأخطائه.