الجمعة - 19 أبريل 2024
الجمعة - 19 أبريل 2024

«معهد الشَّارقة للتُّراث».. ودفء المعرفة

التراث الإنساني ببُعَديْهِ الزماني والمكاني ابن الماضي، بل هو الماضي نفسه، فكيف يتحوَّل بوعي طاغٍ وفاعلٍ إلى حاضر ومستقبل؟

لعل إجابة هذا السؤال تكْمُن على المستوى النظري في الدراسات والأبحاث الخاصة بإحياء التراث، لكنها في سياقها العملي تحتاج إلى إرادة تعمِّق قضاياه بل تعمل على «تثويرها»، تنبثق من صناعة قرار مؤسس على وعي حضاري، وأحسب أن ذلك ما تقوم به الشارقة عبر مؤسساتها الثقافية المتعددة والمتنوعة، وخاصة «معهد الشارقة للتراث».

فمن تلك المؤسسات وعبرها تأتينا الإجابات المعرفيّة لأسئلة تبحث في المنجز البشري ـ قولاً وفعلاً ـ سواء تعلق بالإنسان مباشرة أو بعلاقته بالطبيعة وبالأرض وبالكائنات الأخرى، ومن أهمها «الحيوانات» الأليفة منها والمتوحشة، من منطلق نراها تشكل «أمة» بل «أمماً»، نحتاج إلى حضورها اليوم كتابة وبحثاً، مستندين في ذلك إلى نصوص سابقة وظّفت الحيوان للاحتماء والإيواء والتحايل عن الحياتين الاجتماعية والسياسية، وإلى تراث شفاهي متداول، متشابه وغير متشابه، ومختلف أيضاً.


وفي ظل ظروف صحية عالميّة بسبب جائحة كورونا، حملت طابع القطيعة بين البشر، ثم تحولت إلى حواجز في الحاضر، ومخاوف من مستقبل مجهول، جاء «ملتقى الشارقة الدولي للراوي» في نسخته الـ21 ــ الذي نظَّمه معهد الشارقة للتراث تحت شعار «قصص الحيوان» بمشاركة محليَّة وعربيَّة ودوليَّة رفيعة، ليجعل من التراث مدخلاً لأمان نَحِنُّ إليه، وتقارباً نسعى إليه، حيث دفء المعرفة، ومتعة القَص، وأهمية تنشيط الذاكرة الجماعية للبشر، واكتشاف الثابت والمتغير والمتشابه والمختلف والمسكوت عنه عبر تجارب بشرية لم تحدها الجغرافيا.


الجهد البحثي لمعهد الشارقة للتراث واضح ومؤسَّس، ولا يمكن لأي متابع أو مهتم بالتراث والثقافة إنكاره وهذا بالطبع مهم ومقدّر، لكن الأهم من ذلك هو أن المعهد يسعى للتميُّز على مستوى طرح الأفكار وتحويلها إلى مشاريع، وجمع الباحثين حولها، من خلال تجربة إماراتية ثقافية رائدة تعمل من أجل تصدير أفكار إيجابية ظاهرها محلي، لكن باطنها قومي عربي، وحدودها العالم، وربما إشراك المعهد لباحثين من جنسيات مختلفة دليلاً على البعد العالمي لنشاط الشارقة الثقافي.

هنا تزهو الثقافة، وتصنع لها سياستها الخاصة، وتبرز سلطتها المعرفية، فنتقبلها جميعا قبولاً حسناً، ما دامت هناك إرادة سياسية مثقفة وواعية، مستقرة في المكان، ومتشبِّثة بالوجود الإنساني، ومُدافعة عن علاقة البشر وتصوراتهم، ومُحافِظَة ومُؤْتمنة على ذكرياتهم، بما فيها تلك التي اتَّخذت من «قصص الحيوان» عالماً خاصاً للتعبير وللشكوى وللأمل.