الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

اللحظة السرية.. والكتابة الروائية

سؤال ينتاب الذين يقرؤون قبل الذين يكتبون: كيف ينشأ النص الأدبي الإبداعي، وفي أي رحم يعيش قبل أن يولد؟ وهل يخضع ذلك كله لنظام مسبق، أم أن كل شيء وليد صدف عميقة وغير مدركة؟

عندما نقرأ سِير الكُتّاب الذين صنعوا الذاكرة الجمعية الأدبية، نلمس بسهولة كم أن الكتابة، في جزء من جوهرها الحيوي، تنشأ بقلب الصدفة، أي أنها كثيراً ما تخضع لعامل ليست للكاتب دوماً سلطةُ عليه.

كيف كتب همنغواي لمن تُدق الأجراس؟ كيف كتب غسان كنفاني روايته رجال في الشمس؟ وكيف أنجز الطيب صالح موسم الهجرة إلى الشمال؟ وكيف خطّ ماركيز تفاصيل: مائة عام من العزلة؟ بل كيف كتب أبوالعلاء المعري رسالته العظيمة: رسالة الغفران؟ وكيف انساق ابن حزم لهواجس الحب ليجعل منها جوهر نصه الخالد: طوق الحمامة؟ وما هي اللحظة الأولى التي كانت من وراء الكوميديا الإلهية التي دفعت بدانتي إلى التوقف طويلاً أمام ثنائية شديدة الحساسية الذاتية والموضوعية التي تحكمت فيه وفي عصره: الدين/ العقل.


أعرف مئات الصدف التي كانت من وراء هذه النصوص وغيرها، التي شكلت علامة فارقة في التاريخ الأدبي العالمي. الصدفة في الأدب قانون لأنها تتكرر كثيراً، ولأن الإبداع كثيراً ما يُشيَّد عليها. هي مثل العقدة التي بنى عليها فرويد نمو الإنسان النفسي وتشكل وجدانه، وهي من يتحكم في كل مساراته اللاحقة. العقدة الأولى المحركة للحياة والفن كعقدتي أوديب أو إلكترا. النواة العاصفة والمحركة لكل شيء.


طبعاً لا يمكن اختزال الإنسان في هذا فقط، لكن الأمر مهم في محاولة فهم عالم مبهم مثل عالم الكتابة. في الكتابة مساحتان، واحدة مدركة وترتبط بخيارات الكاتب وما يريد القيام كالكتابة عن حادثة عاشها عن قرب، عن شيء أثر فيه في لحظة زمنية طارئة لكنها تركت ملامحها فيه، عن فقدان عظيم لا حل فيه لرتق الجرح إلا الكتابة، لكن ما الذي يجعل الكاتب الذي عاش الكثير من الوقائع والحالات يولي أهمية خاصة للحظة بعينها دون غيرها؟

قد تقودنا رائحة عطر هاربة نحو استعادة تجربة إنسانية ظلت نائمة في الأعماق فينشأ النص بعمرانه الكلي من خلالها. منذ تلك اللحظة السرية تتناسل الحياة النائمة فينا، وتستمر في حالة من التوالد، تنشأ عنها الجملة الأولى في الرواية التي ستكون اللحظة الحاسمة في التكون الجيني للنص.