الجمعة - 19 أبريل 2024
الجمعة - 19 أبريل 2024

الاحتراق الاجتماعي

في مجتمعات كثيرة أوروبية وآسيوية وشرق أوسطية، تحول البشر من كائنات حية تتعايش فيما بينها بحب وسلام، إلى آلات إنتاجية تعمل ليل نهار لتدر على مؤسساتها المزيد من الأرباح، الفرق الوحيد أن هذه الآلات تحتاج فقط إلى صيانة دورية، في حين يحتاج البشر إلى رواتب وأجور.

لن أتحدث هنا عن أولئك الذين دفعتهم ظروفهم الصعبة إلى سلك هذا الطريق السوداوي الكئيب، فعندما تنعدم البدائل يجد الإنسان نفسه مرغماً على السير في الطريق الوحيد المتاح، مهما كان طويلاً ومظلماً، ومليئاً بالأشواك، أما أولئك الذين أنعم الله عليهم ببدائل كثيرة، فيبدو سلوكهم لمثل هذا الطريق غريباً وغير مبرر.

جاءني رد سريع من مواطنة، تقول: «من يستطيع أن يعيش اليوم براتب 45 ألفاً؟»

في المحيط الاجتماعي الذي أنتمي إليه، أرى بيوتاً كثيرة من طابقين وثلاثة تحيط بها أسوار عالية، تنتصب في منتصفها بوابات حديدية ضخمة، ومهيبة.. أعرف أصحابها عن قرب، وأعرف أن أعداد أفراد أسرهم لا تتجاوز أصابع الكف الواحدة.. آباء فضلوا العمل في إمارات أخرى بحثاً عن رواتب أعلى، وأمهات يعملن حتى آخر النهار لتحسين دخل الأسرة، دخول شهرية مرتفعة للغاية، ورغم ذلك هناك تعطش للمزيد من المال، وغياب كامل للقناعة، ولخبطة لا أول لها ولا آخر في الأولويات، الأبناء مهملون، والعلاقة الزوجية ميتة، والدفء الأسري لا وجود له... كل ذلك في سبيل المزيد من المال.

تسأل أحدهم في لحظة صفاء:

إلى متى ستستمرون على هذا الحال؟

فيجيب، دون تفكير: إلى حين التقاعد!

تُقلب إجابته في عقلك، فتصل إلى نتيجة صادمة، مفادها أنهم سيهدرون الثلاثين سنة الأجمل والأثمن من حياتهم في شقاء، وتشتت، لا مبرر لهما.. وبعملية حسابية بسيطة، تدرك أن الحياة الكريمة لا تحتاج لكل هذا المال، حتى مع ارتفاع الأسعار، والزيادة المستمرة في معدلات التضخم.

انتقدت في تويتر قبل أيام طغيان النزعة المادية على حياتنا المعاصرة، وتطرقت لحالة شخص أعرفه، يبلغ دخله 45 ألف درهم، ولديه ثلاثة أطفال فقط، ومع ذلك ألح على زوجته لتعمل في إمارة أخرى، لرفع مجموع الدخل إلى 70 ألف درهم، وبالتأكيد هناك ثمن كبير دفعته الأسرة بأكملها نتيجة هذا القرار الصعب.

فجاءني رد سريع من قارئة مواطنة، تقول فيه: «من يستطيع أن يعيش اليوم براتب 45 ألفاً؟».

هذا السؤال بحد ذاته، يوضح إلى أي مدى فرغت القلوب من القناعة، ليصبح مثل هذا الدخل الخرافي - بمعايير 95% من دول العالم - ليس كافياً لأسرة من أب وأم وثلاثة أطفال!